لم يستوعب الكثيرون بعد مقولة أن ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات مازالت فى بداياتها برغم كل ما نشاهده من تطورات علمية وتكنولوجية ومجتمعية سريعة بفضل تلك الثورة. وتتكفل بعض الحوادث أو الازمات من حين لآخر بتنبيهنا إلى أن العالم الرقمى الذى دخلناه- عالم الكمبيوتر والمحمول والانترنت والفضاء الإلكترونى والاستشعارعن بعد والتنصت والتشفير- أكثر تعقيدا بكثير مما نظن. ويظهر من الأزمات أن البحث عن واستخدام المعلومات ليس وسيلة فقط لتحقيق التقدم العلمى وتحسين التنافسية ولكن أيضا وسيلة لإعاقة تقدم الاخرين أو لتدخل الدولة فى شؤون الأفراد أو لغرض مكافحة الإرهاب، كما أصبح السلاح الأكبر والأهم فى الصراع بين الدول وسبب كثير من الحروب الخفية والمعلنة. فى عصر المعلومات والمعرفة فإن المعلومات يتم تداولها وتنتقل وتعيش عبر الفضاء الإلكترونى، وعليه فهناك من يقوم بتأمينها وحمايتها أو السطو عليها واختراقها وتشويهها ولا يوجد لهذا الفضاء سلطة عالمية تحكمه أو قانون محدد يطمئن إليه الكافة أفرادا وحكومات، وقد لا يوجد أبدا. وقد تفجرت المخاوف من مخاطر عصر الفضاء الإلكترونى مرة أخرى بعد اندلاع الازمة بين جوجل والصين ثم بين بلاك بيرى– الكندية– وكل من السعودية والإمارات والهند مؤخرا. إننا بإزاء أزمة بين دول (أو حكومات) وبين شركات عالمية متعددة الجنسيات أصبحت دولا هى الأخرى لانها تملك التكنولوجيا والمعرفة، وكثير منها أصبح أغنى وأقوى من كثير من الدول، وجوهر الأزمتين هو صراع بين حق الأفراد فى الحرية الشخصية وحق المؤسسات فى حماية معلوماتها وبين حق الدولة أو أجهزتها فى الاطلاع على معلومات تخص الطرفين بغرض محاربة الجريمة أو الحفاظ على الأمن. أين الميزان هنا؟ ومن يمسك به؟ وكيف نتحقق من عدله ومن أن أيا من الجهات المتصارعة لا تستغله للإغارة على حقوق الأطراف الأخرى؟ كيف نصون حقوق الإنسان ونحفظ فى نفس الوقت حق الدولة فى منع الجريمة وتحقيق السلم والأمان؟ من المفترض أن يجيب عن كل ذلك المشرعون عادة، لكن العالم المعاصر لا ينتظر ويتطور بسرعة مذهلة، كما أن تطور التكنولوجيا المتلاحق لايعطى للمشرع وقتا كافيا ليثقف نفسه ويتفهم أبعاد المشكلة بدقة قبل أن يقنن أو يشرع وبالتالى تصبح الضغوط شديدة على الأجهزة الأمنية والرقابية لدفعها لإيجاد حلول عاجلة للأزمات الطارئة، وتعانى هى ذاتها من تعارض المصالح وتباين اتجاهات الضغوط ومع أى قرار ستتخذه سيكون هناك إما مكاسب كبرى أو أخطاء فادحة، لذا لابد من التروى فى اتخاذ القرار وعليها الالتزام بالحيدة حتى لا تفقد تلك الأجهزة شرعيتها. وتتلخص أزمة بلاك بيرى مع السعودية والإمارات ببساطة فى السؤال: من يملك حق تخزين المعلومات المتداولة عبر الهاتف والإنترنت وكيفية تأمينها، ومن له حق الاطلاع عليها؟. وإذا كانت المعلومات فى الفضاء الإلكترونى فإنها دائما فى مكان ما أو فى طريقها إليه أو مخزنة فى خادم بالشركة مالكة التكنولوجيا، فهل هى مؤمنة حقا؟ ومن له حق الاطلاع عليها؟ وفى أى موقع؟ وهل يمكن لعنصر إرهابى أو إجرامى أو عميل اختراقها أو الاطلاع عليها؟ وهل للدولة حق فى معرفة ما يقوم به الأفراد خلال تلك التكنولوجيا أم أن حقهم فى الاحتفاظ بمعلوماتهم الشخصية (تشمل مشاكلهم الطبية والعاطفية والاسرية والمالية) يسبق حق الدولة؟. يتبع. رئيس جامعة النيل