أنت لا تحتاج للنهوض بهذا المجتمع فى تلك المرحلة لأكثر من نموذج صالح فى كل مجال على الأقل، يحمل فى طياته بصيص أمل، بدلاً من التراجع الإجمالى فى جميع القطاعات. يمكن أن أحيلك إلى رأى العالم الكبير الدكتور أحمد زويل، الذى قال فيه بوضوح إن التنمية الشاملة فى مصر تكاد تكون مستحيلة وغير واقعية، وأن الحل هو دعم سياسة «الجزر التنموية»، بمعنى تقديم نماذج تنموية ونهضوية فى مجالات مختلفة، على أن يأتى يوم «تلتحم» فيه هذه الجزر مع بعضها البعض لتكون يابسة صلبة ومتماسكة، وبمعايير تنموية مختلفة. تأثير هذه النماذج المتماسكة لا شك سيحدث تأثيراً كبيراً فى قطاعاتها وفى مجتمعها، واستلهام تجاربها لتطويرها أو تقليدها على الأقل يكفى لإحداث قفزات مهمة على كل المستويات. تكفيك مدرسة واحدة، تعمل بنظام متماسك ومتطور، وبمناهج تدعم الإبداع والابتكار، وبوسائل تربوية غير تقليدية، تدعم الجوانب العلمية والأخلاقية بتوازٍ كامل، وتلتزم بمعايير جودة فائقة سواء فى مستوى الخدمة المقدمة أو فى مستوى المنتج نفسه، لا أتحدث عن مدارس استثمارية تهدف للربح وتقديم الخدمات الفندقية والترفيهية لطلابها باعتبارهم زبائن فى المقام الأول، وإنما عن نموذج أهلى أو حكومى للتعليم. لديك فى مجال التعليم نماذج كثيرة كتلك، تحتاج إلى الدعم وإلى الترويج، حتى يصبح نموذجها رائجاً اجتماعياً، وهدفاً تنافسياً، وعندما تصبح لديك مدرسة واثنتان وثلاث، سيفرض هذا النموذج التعليمى نفسه بقوة، وستلتحم هذه التجارب لتحقق نهضة تعليمية أعمق تأثيراً، تقود المجتمع إلى القفزة التنموية التى يتطلع إليها، ليس فقط فى المجال التعليمى. الأمر ذاته فى مجال الخدمات الصحية المتردية كما تعرف، والمنقسمة بين مؤسسات تعطى بأقل إمكانيات وبمستوى جودة فى حدود هذه الإمكانيات، ومؤسسات فندقية تعطى المريض «الرفاهية» قبل العلاج، يكفيك أن تكون لديك نماذج، مثل «مركز غنيم للكلى» بالمنصورة، أو مستشفى «57» بالقاهرة، أو «مركز مجدى يعقوب للقلب» بأسوان، لتحاول تثبيت الأوضاع المهنية واللوجيستية لهذه النماذج، لتنطلق بتجاربها النبيلة لخدمة المجتمع، والمشاركة فى إحداث نهضة صحية، وتنمية شاملة على مستوى هذه الخدمات، سواء فى العلاج أو تأهيل الأطباء والعاملين. عندما تنتشر هذه النماذج والتجارب، ويجرى ربطها فى إطار التعاون المهنى والبحثى والتمويلى أيضاً، سيحدث «الالتحام». تكفيك صحيفة واحدة على الأقل، تعمل بمعايير مهنية صارمة، وبمستوى جودة فائق، وبالتزام بالقانون ومواثيق النشر، وبرسالة محايدة وموضوعية، لتحدث تأثيراً فى صناعة الصحافة ككل وفى المجتمع كذلك، كما يكفيك نماذج هندسية وصيدلية وتكنولوجية وصناعية وزراعية لتحقيق تأثير متنوع، لكنه لن يكتمل أثره فى طريق التنمية الشاملة طالما بقيت هذه النماذج «جزراً منعزلة» لا روابط بينها، ولا مشروع مجتمعياً أكبر يربطها ببعضها. أقول لك ذلك حتى لا تبقى منتظراً أن يأتى يوم يضغط أحدهم على زر فتحدث التنمية الشاملة، هى فى النهاية مسألة فى يدك أنت، إذا ما حاولت أنت أيضاً أن تكون نموذجاً فى مجالك وأن تغلب المهنية فى أدائك على جميع المستويات، فعندما تصبح مدرساً كفؤاً، أو طبيباً مميزاً، أو صحفياً مدققاً، أو مهندساً مبدعاً، أو كيميائياً مبتكراً، أو حتى سائق تاكسى متحضراً، فأنت مشروع «جزيرة تنموية».. وعندما تلتحم جميع الجزر سنصبح مجتمعاً مختلفاً تماماً...!