أصارح القارئ العزيز بأننى أتعمد بين الحين والآخر العودة إلى أيام القتال والبطولات، والمعاناة القاسية فى ميادين الحرب مما عايشه جيلى، لكننى أريد أن يعلم القارئ أننى لا أهرب بهذا من مشاكل الحاضر، ولا أدعو قرائى إلى الهروب منها، بل على العكس، إننى أستدعى فى داخل كل منا مخزوناً هائلاً من خبرات المقاومة المصرية فى مواجهة النيران والموت، لأنبه نفسى والآخرين أنه لا مجال لليأس من إصلاح أحوال مصر الراهنة، فتحديات التنمية والبناء والنهضة والإصلاح فى حالة السلم لا يمكن أن تقاس بأى حال من الأحوال مع تحدى جندى المدفعية المصرية المضادة للطائرات، لقد كان هذا الجندى فى حرب الاستنزاف يواصل إطلاق قذائفه من المدافع المضادة للطائرات سوفيتية الصنع ضد طائرات الميراج وسكاى هوك والفانتوم إلى أن تلتهب ماسورة المدفع وهو يعلم أن مدفعه ينتمى إلى عالم الحرب العالمية الثانية وأن الطائرات التى يواجهها هى آخر ما أنتجته التكنولوجيا الفرنسية والأمريكية، كان هذا هو الوضع السائد فى الجو فوق الجبهة والرجال الذين توضأوا بدماء زملائهم الشهداء وتعمدوا بلفح النيران، يواصلون التحدى والقتال واستنزاف القوات الإسرائيلة قبل وصول الصواريخ المضادة للطائرات وبناء حائط الصواريخ وظهور نتائجه فى وقف السيطرة الجوية الإسرائيلية عام 1970. عندما ظهر مقال الثلاثاء قبل الماضى تحت عنوان «لا تنسوا ذكرى حرب الألف يوم المصرية» والتى انطلقت فى 1/7/1967 وهو الاسم الذى يطلقه المؤرخون العسكريون الإسرائيليون على حرب الاستنزاف، تلقيت رسائل تشجيع على أحياء تجارب البطولة المصرية جاءتنى إحدى هذه الرسائل من خبير إعلامى متمرس فى الإعلام العربى والدولى ليقول لى إن الدول تنفق أموالاً طائلة لإذكاء الروح الوطنية لدى جماهيرها وإن مصر فى حاجة حقيقية لما نقدمه فى هذا المجال. كان ذلك الإعلامى هو الأستاذ ياسر عبدالعزيز وبعده جاءتنى رسالة من أحد رفاق الشباب المقاتلين من أبناء بورسعيد وهو الأستاذ محمد الزغبى الإخصائى الاجتماعى يعدنى بأن يرسل إلى شهادته وشهادة أصحابه المقاتلين عن التجارب التى عايشوها فى ميدان القتال بين عامى 1967 و1973 وهو ما دفعنى إلى السعى للاستماع إلى تجربة شقيقى الأصغر عبدالحميد عن تجربته فى الميدان من عام 1968 إلى عام 1973. بعد أن استمعت إلى شهادة محمود مراد، المراسل العسكرى للأهرام، وتوجت هذه الرسائل الإيجابية بدعوة من الدكتور صابر عرب، أستاذ التاريخ المصرى الحديث ورئيس دار الكتب المصرية لإلقاء محاضرة على طلاب الجامعات الذين يحضرون دورة صيفية بالدار حول مناهج التوثيق والتأريخ وجمع الشهادات الحية من مصادرها الأصلية، ولقد كان تفاعل هؤلاء الطلاب مع ما قدمته لهم من شهادات المقاتلين المصريين وشهادات الأسرى الإسرائيليين شديد الدلالة على صحة اعتقادى بأن الشخصية الوطنية المصرية مهما تراكمت الصعوبات وعوامل الإحباط مازالت تحتفظ بمعدنها الصلب اللامع لمعان الذهب وأنها جاهزة للانطلاق نحو التحدى والفعل الإيجابى إذا منحناها مشروعاً وطنياً نلتف حوله وإذا قدمنا لها القدوة الصالحة وخط السير المطلوب، إننى أقدم اليوم وثيقة إسرائيلية أخرى تكشف عن آثار البطولات المصرية فى المجتمع الإسرائيلى وفى القوات الإسرائيلية، وهى تجربة حوار بين جنديين إسرائيليين كانا متمركزين فى أحد مواقع خط بارليف أثناء حرب الاستنزاف، القصة تحمل عنوان «أغنية البجع» نشرها الأديب الإسرائيلى وان آدليست فى الملحق الأدبى لصحيفة «عل همشمار» بتاريخ 17/4/1970 أى فى أوج حرب الاستنزاف المصرية، لقد أختار الأديب عنواناً يعطى إيحاء باقتراب الموت وهو (أغنية البجع). يدور الحوار بين جنديين من جنود الاحتياط أتيسيك ويوسى وهما فى موقعهما على حافة القناة، وقد قضى كل منهما أسبوعاً فى هذا الموقع بعد تكليفهما بالمراقبة للمواقع المصرية، كان كلاهما يشعر بالإجهاد من توالى القصف المدفعى المصرى فكان يقضيان الليل فى المخابئ، ويقومان فى الصباح مع توقفه بإحصاء الحفر التى تولدت عن القذائف والخسائر الناتجة عنه. الجو العام المحيط بالجنديين جو واقعى يطابق الحالة التى كان يعايشها الجنود الإسرائيليون فلم تعد الخدمة العسكرية على حافة القناة مدعاة للزهو الإمبراطورى ولجنون العظمة، يشعر الجنديان بأزمة عندما تأتى إليهما أوامر بأن خدمتهما قد امتدت فى الموقع ثلاثة أسابيع أخرى فيبدأ بينهما حوار حول ما يعايشانه من تجربة الخطر، وفى ثنايا الحوار يتناولان الأوضاع السياسية والفكرية والتيارات المختلفة فى المجتمع الإسرائيلى، ويعلقان عليها، مثل وجود حركة إسرائيل الكاملة التى كانت ترفض التخلى عن شبر واحد من سيناء، ومثل نظرية الأمن التى تزرعها القيادة العسكرية الإسرائيلية فى عقول الجنود لإقناعهم بأن وجودهم على حافة القناة ضرورة لأمن إسرائيل، يبدأ الجندى أتيسيك الحوار بالتعبير عن ضيقه من الانتظار فى حالة المراقبة لنشاط حرب الاستنزاف ويدفعه إحساس الضغط المستمر إلى أن يقول إنه يتمنى أن يقوم المصريون بهجوم شامل حتى تنتهى الحرب، يجيب عليه زميله يوسى بأن النهاية لن تأتى، لأن هزيمة العرب لن تحملهم على الاستسلام بل على معاودة الهجوم. هنا يقول أتيسيك كلما جاءوا سنضربهم ونقتلهم فيتهمه يوسى بأنه سفاك دماء لاستعداده للقتل بدم بارد. يجرى الحوار ليستعرض حالة الحيرة التى يعايشها الجنود الإسرائيليون بين منطق البقاء على الأرض المصرية والرغبة فى السلام والأمن الشخصى، وفى سياق الحوار يرد ذكر حركة «ماتسبن» وهى حركة كانت تدعو إلى السلام وتوصف بأنها حركة تعانى مِن حالة بلاهة عقلية لدعوتها إلى الانسحاب مقابل تحقيق الأمن والسلام، ونفهم من هذا الوصف أن اتجاه الحركة مرفوض من الغالبية وفى السياق نفسه يرد ذكر حركة إسرائيل الكاملة فتوصف هى الأخرى بأنها وأعضاءها نتاج لأساليب التنشئة الأيديولوجية الصهيونية التى تربى الشباب على طاعة الأوامر والتلقين الفكرى، ويوصف أعضاء هذه الحركة بأنهم مثل الإنسان الآلى المستعد لإطاعة التعليمات، سواء جاءت بقتل العرب أو احتلال أراضيهم دون أى تفكير، وفى سياق الحوار يضع الأديب على لسانى الجنديين عبارات تؤكد حالة الطمع فى أراضى العرب، وهى الحالة التى تملى على الجندى ممارسة القتل دون أى مشاعر للذنب أو حتى مشاعر للكراهية فالقتل هنا وسيلة لإزاحة العرب باعتبارهم عقبات تعترض طريق الإسرائيلى فى تحقيق ما يطمح إليه. وفى موقع آخر من الحوار يكشف الأديب عن تصور كامن لدى أحد الجنديين بأن استخدام العنف هو الطريق لتعليم العرب الدرس فى عدم المقاومة كما يكشف عن منطق مضاد يفيد أن استخدام العنف مع العرب هو الذى يؤدى إلى توليد العنف عندهم، ليتوج الحوار بالاعتراف بأن الجندى الإسرائيلى الجالس على القناة واقع فى حيرة، ولا يعرف أين القرار الصواب، تاركاً مصيره للقادة أصحاب القرار. ينتهى، الحوار بجمل قصيرة متتابعة بين الجنديين تشير إلى نوع المفاهيم التى يتلقيانها، والتى تتصارع مع رغبتهما فى الأمن الشخصى، يقول أحدهما: ماذا إذن هل سنظل هكذا إلى الأبد؟ ويجيب الآخر: هل جننت؟ فيسأل الأول: هل ننسحب؟ فتأتى الإجابة: هل جننت؟ فيأتى السؤال: أهى حرب جديدة إذن؟ وتأتى الإجابة: هل الموقف مجرد من الأمل إلى هذا الحد؟ فيأتى سؤال أخير: هل تعرف ماذا تريد؟ والإجابة: كلا.. وأنت؟ وينتهى الحوار بكلمة كلا، ثم كلمة «بوم»، علامة على سقوط قذيفة مصرية تضع نهاية الموت للحوار، وهو ما يشير إليه عنوان القصة (أغنية البجع) الذى يشير إلى أسطورة تقول إن البجع يبقى صامتاً طوال العمر، ولكنه قبل الموت يغنى أغنية وحيدة حزينة لوداع الدنيا. السؤال الأخير من عندنا يقول: ترى هل جاءت هذه الموجة الأدبية الإسرائيلية من فراغ أم من ضغوط الإدارة الحديدية التى أظهرها شبان مصر فى الميدان؟!