تعودت كل فترة من الزمن على مراجعة الأوراق التى أحتفظ بها فى صندوق خاص، وهى عادة مجموعة من العقود، والفواتير، والإيصالات، وقصاقيص عليها أسماء وأرقام تليفونات لم أعد أتذكر أصحابها، وبضع أوراق مدون بها خواطر، وبدايات موضوعات لم تكتمل، وأفكار لمشاريع ترجمة، وأشياء لا أذكرها، ودائما كنت أجهد نفسى فى محاولة فرز هذه الأوراق للتخلص من بعضها، وكنت أتخلص من القليل، وأترك الباقى وأنا على يقين أننى سأحتاجه يوما، ولا أعرف من أين جاء هذا اليقين، ولا كيف استمر. فى هذه المرة، لفت نظرى مظروف أبيض مكتوب عليه بخطى «أستاذى الفاضل»، فتحت المظروف فوجدت رسالة غير مؤرخة مكتوبة بخطى أيضا، رغم أننى لا أذكرها على الإطلاق، ولا أعرف متى ولماذا كتبتها؟ الرسالة موجهة للأستاذ عبدالملك مدرس التاريخ فى المرحلة الثانوية.. آه الأستاذ عبدالملك.. لايمكن أن أنساه، قرأت الرسالة بتمهل، كانت عبارة عن لمسة وفاء وتقدير لمعلم متميز، وفيها تعليق عن لقائى به مصادفة فى وسط البلد بعد أن تخرجت من الجامعة. نقلتنى الرسالة لأجواء الصف الأول الثانوى، وانتعشت ذاكرتى حتى كدت أرى أمامى الأستاذ عبدالملك بقامته المديدة وبذلته السوداء الأنيقة، وابتسامته الودودة، وصوته المميز وهو يشرح الدرس، لم يكن يجلس على مكتبه كغيره من الأساتذة أو يقف أمام السبورة بل كان يزرع الفصل جيئة وذهابا، كان أقرب للحكاء منه للمدرس، وتذكرتنى وأنا أطالبه بمزيد من التفاصيل عن الحروب والغزوات والأبطال والأعداء.. كنت شغوفة بوقائع التاريخ، وكان فضولى كبيرا، لكن الأستاذ عبدالملك لم يحاول يوما أن يقمع هذا الفضول، بالعكس كان يشجعه، كان يسير بيننا كما كان يسير سقراط وسط حوارييه فى شوارع أثينا القديمة يحاول أن ينمى عندنا الفضول والتساؤل والرغبة فى المعرفة. حاولت أن أتذكر متى كتبت هذه الرسالة؟، وسألت نفسى: ولماذا لم أرسلها؟، وهل يا ترى الأستاذ عبدالملك مازال حيا يرزق أم توفاه الله؟ لم أعثر على أى إجابات فى ذاكرتى، فطويت الرسالة كما كانت، وأودعتها من جديد فى مظروفها، وجلست أفكر فى تأثيرها على الأستاذ عبدالملك لو كانت وصلته فى حينها؟، هل كانت ستسعده، وتشعره بأنه لم يفن عمره هدرا فى مهنة التدريس، آه فعلا تذكرت شيئا، فى لقاء وسط البلد اشتكى لى من أن معاشه منها لا يكفى ثمن دوائه، يومها لم أتأثر كثيرا بهذه الجملة، لكنها تبدو لى اليوم حزينة ومؤثرة، رسالة الأستاذ عبدالملك وصلتنى متأخرة، لكن رسالتى له لم تصل على الإطلاق، كتبتها وحدى، وقرأتها وحدى، ولم أعرف حتى الآن لماذا حبستها فى صندوقى، فكرت فى رسائل أخرى كتبتها ولم أرسلها، ووجدت الكثير، وللأسف أنا وأنتم مازلنا نفكر، ونكتب، وننوى أن نقول شيئا ما لشخص ما، لكن لسبب أو لآخر، نهمل أو ننسى، فتظل رسائلنا داخل صدورنا وصناديقنا.. حياتنا مليئة بهذا النوع من الرسائل المفقودة، ولا أقصد بالرسائل الكلمات المكتوبة وفقط، ولكن أقصد أن تصرفاتنا ومواقفنا هى أيضا رسائل، كل خطوة نخطوها رسالة، كل إيماءة ونبرة صوت ونظرة عين ورفة جفن، كل سلام وكل خصام، كل مايصدر عنا رسائل، فلماذا لا نحرص على توصيل رسائلنا؟، ولماذا نتركها معلقة فى الفراغ، أو نوصلها ملتبسة وعلى غير معناها؟ لن أتوقف هذه المرة حتى تكتمل الرسالة، فتحملونى.