تحققت نبوءة مارشال ماكلوهان، وصار «العالم قرية صغيرة»، بسبب ثورة الاتصالات الهائلة.. الآن يمكن لإنسان هذا العصر أن يحاور شخصاً على الطرف الآخر من العالم، وهو يلتهم الساندويتش ويحتسى كوب العصير، ويتابع مباراة أو حادثا فى مكان قصى من الدنيا، مع هذه الثورة توحدت الأرض وانفرط الإنسان، وعاد الفرد إلى جزيرة حى بن يقظان، وروبنسون كروزو، وتحول كل فرد إلى قارة موحشة من الصعب اكتشافها. قبل أيام التقيت صديقة من أيام الدراسة، حدثتنى عن زمااااان ببهجة وابتسامة واسعة، كانت هى نفسها فتاة الثانوى التى تضحك من القلب، وعندما سألتها: وإنت عاملة إيه دلوقتى؟.. تغير الحال، وحدثتنى عن بيتها وزوجها وابنها الوحيد بلهجة عدم رضا، وكانت تنهداتها بعد كل وقفة تخبرنى بأكثر مما تخبرنى به كلماتها المتحفظة، وأصعب ما قالته لى صديقتى، أنها تشعر بكونها غريبة فى بيت يضم أقرب الناس إليها، قالت صديقتى: «كثيراً ما حاولت كسر هذه العزلة، وبذلت كل المحاولات للتقارب مع زوجى والبحث عن لغة للحوار بيننا، وضحكت وهى تردد كلمات محمد صبحى ساخرة: أنا حاولت أجدد نفسى وأكون امرأة عصرية، وصبغت له شعرى، وعوجت لسانى، ولعبت معاه كيكا ع العالى وكيكا ع الواطى، لكن مفيش فايدة» قلت أركز مع ابنى، قال لى «خنقتينى»، قلت له: «الأمومة...»، وقبل أن أكمل: قال يفتح الله.. دماغنا، زهقت نصايح وتعليمات. قلت له: نبقى أصدقاء، سكت، واعتبرت أن السكوت علامة الرضا، والحد الأدنى من الموافقة، فتلقفت المبادرة، وبدأت أتجنب أكل البيت وأشاركه فى طلبات «الدليفرى»، وأجلس معه على الكومبيوتر، كلما سمح لى، وذات مرة سألته عن FACEBOOK، فوجدها فرصة ليستعرض مهاراته ومعلوماته على الأم القادمة من زمن الحمام الزاجل، وهالنى ما رأيت، وكدت أصرخ على طريقة يوسف وهبى «يا للهول»، لقد وجدت ابنى الذى يمن على إذ فتح فمه وقال «إزيك ياماما»، وجدت ابنى الشحيح فى كلامه معى يتكلم بكل اللغات مع ناس من كل أنحاء الأرض، حتى إن بين أصدقائه ناساً من كولومبيا، والله من كولومبيا يا مى، قالتها صديقتى بدهشة وغيظ وهى تضيف: «لقيت صور وأشعار وفيديوهات وأغانى ورنات، ودنيا تانية، وكلام كتير، كلام ما بيخلصش»، وسألت نفسى: طيب ليه الكلام خلص معايا؟ ليه كل ما أحاول أقرب لا أجد إلا الصمت والجفاء، أو عبارات الأوامر ولغة الرسائل القصيرة: فين القميص المقلم؟، هتأخر اليوم مع أصدقائى.. عايز فلوس علشان رايح شارم، عايز العربية.. هكذا فقط يتحدث معى ابنى وزوجى، كلامهما معى بالقطارة، ولا يملأ فراغ حياتى لا تليفزيون ولا ناد، ولا اتصالات تليفونية مع الأهل، حياة جافة، لا تمحو عنى شعورى بأننى أصبحت امرأة على الهامش. تألمت كثيرا من كلام صديقتى، وحاولت أن أهون عليها، فقلت لها إن البيوت فيها ما فيها، ومحدش مرتاح، ووراء كل باب حكايات وحكايات، ونحن جميعا فى الهوى سوا، الفرق بيننا أن هناك من تنجح فى العثور على طريقة ما للتواصل مع العالم، الذى لا ينتهى بالتأكيد داخل جدران الشقة التى نعيش فيها. انتهى لقائى بصديقتى، وجلست أسترجع حديثها كلمة كلمة، وشعرت أننا جميعا نعانى بدرجات متفاوتة من عدم التواصل والرسائل المفقودة، وتساءلت لماذا أصبحنا نتجاور ولا نتحاور؟ تعالوا نشارك معا فى البحث عن إجابة، ونواصل الحوار فى الأسبوع المقبل.