لم أكن قبل هذه الرحلة أستطيع البعد عن الوطن أكثر من أسبوعين أقضيهما بين سياحة وتسوّق حتّى يدقّ ناقوس الحنين لفوضى الضجيج والوحدة معا، فالضجيج وحدة بالنسبة لى حيث لا يعنى غير صدىً لتظاهرة عشوائية تعجز عن اقتحام بوابة الذات، بينما الوحدة مهرجان كرنفاليّ أبطاله كتاب وكمبيوتر وموسيقى وأحلام تسبح فى بحر خيال. (ما علينا) المهم أنّى ولأول مرّة لا ينتابنى الحنين الملحّ للعودة لدرجة أنّى فكرّت جادّة بالاستقرار فى أوروبا وتحديدا فى النرويج وأنّا المغرّدة بالولاء والانتماء القومىّ العروبىّ، المشهرة قلمى فى وجه التغريب والاغتراب! ترى ما الذى حلّ بى؟ هل هو شعور صعوبة التوافق بين حزن عميق على ما آل إليه حال أوطاننا وما أحلم به من سعادة وأمل كما وصفته (إيزابيل شقيقة الشاعر لوركا) فى مذكراتها؟ أو هو ما تقوله أيضا (عندما يتقدم السنّ بإنسان فلا مجال للشك أنه يعيش أكثر من حياة)؟ أم هو فقدان الاتزان العاطفى وانعدام الثقة بالغير قد أصابنى بأزمة الإحساس المؤقت بالانتماء والتمرد على الكبت والضغوط بالانطلاق من زنزانة الخوف والقهر لتحرير الذات وإطلاقها فى فضاء آمن تحيى فيه ما مات من قيم وأمل وفكر دون قيد؟ لأول مرّة تنتابنى مشاعر غبطة للمقيمين هناك رغم ما لمسته فيهم من أعراض اغتراب ووجد للوطن البعيد.كاد يقتلنى الصراع بين متعة رضا تسعدنى بها ابتسامات الأغلبية هناك وتحياتهم وتقديم العون لكل عابر طريق وطبيعة لا تعلو عليها غير الجنّة، وقانون عادل ومساواة حقوق، وإعمار وأمن وأمان وبنية إنسانية وثقافية واقتصادية راسخة، يتقدمها احترام للآدمية ورحمة كل ذى روح. لينتفض بى سؤال (لماذا هم كلّ ذلك؟) ولماذا نحن كل السلبيات من كذب وجحود وتلصص وتربص ونميمة وعهر غير علنى واغتيال نجاح ورجم عدالة بحجارة ظلم سلطة ومجتمع، وعشق (فشخرة) لمحدثى مناصب وأرصدة، وادّعاء ثقافة ومباهاة بمصطلحات ممجوجة لا محل لها من إعراب، وانحناءات نفاق وشنق مشاعر حبّ. تتعبنى الحيرة بين الترفع وإشباع الذات بما تشتهى من عدل وديمقراطية حقيقية، وبين وهج الذكريات وأطلال الطفولة وسُمرة الجِباه ومِسْك الأرض وتسبيح الكروان. يتعبنى القرار حين أرى الفرق بين هنا وهناك! هناك يفوز حزب العمال بالأغلبية فيوكل مهمة تشكيل الحكومة إلى منافسه (حزب المحافظين) لكفاءته وخبرته حرصا على مصلحة البلاد، وهنا يتصارع (الدّيكة) منذ شهور على مليارات رئاسة الوزراء ولايزالون بينما التفجيرات تحصد طوابير الفقر المكتظة عند صندوق معاشات لم يتسلمها الضحايا منذ شهور فى ظل غياب أمنىّ وفراغ سياسىّ. هناك يقال رئيس الوزراء بتهمة استغلال (سيارة) الرئاسة فى توصيل ابنه للمدرسة بسبب عطل فى سيارته الخاصة، وتحاكم وزيرة لتقديمها شكوى بمظروف وورق وزارتها واعتبار ذلك استغلالا لمنصبها، هناك تعاد أتعاب المحاماة لرافع قضية ضد مؤسسة لتتولى نفس المؤسسة دفع الأتعاب إذا كان الشاكى مسنّا على المعاش. هناك تخصص المساكن والرواتب للمتسولين الأجانب كواجب إنسانى وحفاظا على وجه البلد الحضارى، هناك تحفظ الضرائب ودائع لتعمير مرافق وتأمين عيش وصيانة كرامة، وفى بلادى تضاف لأرصدة واستثمار خاص و(لا تعليق!). ذلك ما أثار إعجابى وغبطتى مضافا إليه حاجتى ربما لدفء حميمى غمرنى به المقربون من الأسرة المبعثرة بين قبور وبلاد. إليك: أحتاجك صكّ براءة من خطايا السنين. مشكاة طهرٍ تضىء ليل الغربة. خطوة تشلّ أقدام الوحدة المهرولة إلى زوايا الروح. ضحكة تجلجل فى قصر الحزن. تحملنى أجنحتها حيث (مَهْدكَ) الموشّى بلآلئ أمومتى. أناغيك. أرتّل لك ترنيمة الحقيقة. أحملك على صدرىَ المتعب باحتفالية توحّد وعناق. أحتاجك جنينا يمرح مع النبض. طفلا متمردا يراقصنى على إيقاع عقاب وثواب. صبيّا تعصف به رياح الأسرار والحذر من نظرة عينىّ. شابّا يحمل مجدافى الطموح فى زورق الحلم. أحتاجك رجُلاً أحتمى به من أشباح الخوف. .فارسا تستظل بهيبته قوافل المصير من لظى المجهول. أحتاجك صدرا يحتضن إغفاءة الأبد. وشجاعة تهدئ روع النهاية. أحتاجك. أحتاجك يا ولدى. يا الحقيقة المفترشة مسام الروح والعشق الأوحد المعترش شغاف القلب. ياقرّة العين ورفّة الضلوع وخلاصة العمر. يا.. ولدى.