في عام1967 صدر كتاب صغير الحجم في سلسلة كان عنوانها كتابات جديدة عن دار الكاتب العربي, الكتاب كان مجموعة قصصية من أيام مجد القصة القصيرة وازدهارها لثلاثة كتاب كانوا ينشرون للمرة الأولي وهم أحمد الخميسي وأحمد هاشم الشريف وأحمد يونس اما المجموعة فكان عنوانها الأحلام والطيور والكرنفال.لفتت المجموعة الأنظار إليها بقوة, فقد كانت القصص المنشورة للكتاب الثلاثة ذات طعم مختلف ومذاق مغاير ورؤية مناقضة لما كان يكتب, باختصار كانت تبدو فتحا جديدا للقصة القصيرة. وبعد43 عاما يصدر أحمد الخميسي مجموعة قصصية جديدة في سلسلة كتاب اليوم هي كناري وأظن انها واحدة من اكثر المجموعات عذوبة وفتنة مما قرأته خلال الفترة الأخيرة فهي تختطف القاريء منذ سطورها الأولي, وعلي مدي عشرين قصة تتلأ لأ بلحظات الألم والحب والخوف والأنكسار, وإن كانت لحظات البهجة ضنينة مثل الأيام الضنينة التي نعيشها الآن, والتي كتبت القصص في ظلها وعلي هامشها. بين الأحلام والطيور والكرنفال وكناري كانت رحلة أحمد الخميسي الذي يعتبره كاتب هذه السطور أحد انبل ابناء جيل الستينيات ليس فقط بسبب مواقفه السياسية واختياراته, بل كذلك لانه يعمل بدأب واصرار بأقل قدر من الضجيج مبتعدا عن ماكينات العلاقات العامة والمصالح الصغيرة المنتشرة هنا وهناك. بين أول كتاب للخميسي وآخر كتاب, ترجم وألف وأعد اثني عشر كتابا في النقد والقصة والتاريخ والسياسة, كما حصل علي الدكتوراه في الآدب الروسي من جامعة موسكو, ومع ذلك آثر الابتعاد عن الضجيج والتواري عن عمد. لكن اعماله المؤلفة تتباعد ايضا عن بعضها البعض, فمثلا بين المجموعة المشتركة الأولي, ومجموعته الثانية قطعة ليل سبع سنوات, كاملة وبين هذه المجموعة ومجموعته كناري ست سنوات, وهي فترات طويلة بطبيعة الحال, علي الرغم من ان مجموعة كناري الأخيرة تشير مثلا إلي غني العالم الذي يتناوله مما يجعلني اكاد اقول انه يكبح هذا العالم المفتوح بطبيعته والمتنوع ايضا. وفي الكلمة التي قدم بها الصديق محمد المخزنجي مجموعة كناري اشار إلي أن قصص الخميسي تمثل نماذج عالية لقدرات كاتب من كتاب القصة العربية الكبار, فهو كاتب يمنح نماذجه القصصية شمول الرؤية, التي تمزج برهافة ورصانة معا.. بين الانسان الخاص والوطني العام, بين التخييل المجنح والواقعية الدافئة, سبيكة مشغولة, يفتنني فيها هذا الايجاز البلاغي الذي يجعل جملته السوية القوية. نابضة ومشعة, بلا اطناب. وقد اختار المخزنجي كلماته بدقة بالغة كعادته, ووضع يده علي أهم سمات هذا الكاتب, الذي اراه, مثلما رآه المخزنجي من كتاب القصة العربية الكبار يملك عالما غنيا مترامي الاطراف, ولعلي اضيف هنا انه يمزج بين هذه العوالم برهافة نادرة. ففي قصة انتظار مثلا يمزج بين الواقعية الخشنة والخيال الجامح, حيث يحل رجل لا نعرف من أين اتي, رث الهيئة حاملا حقيبته ويجلس علي أحد الارصفة, وعندما يسأله صاحب المخبز المجاور عن سبب قعوده طوال النهار يجيبه انه ينتظر, لكنه لا يفصح اكثر من ذلك., وبعد يومين يلحق به رجل آخر يقتعد الرصيف بجواره, ثم تجيء امرأة مع طفل غائب الوعي, ثم عامل مفصول ويتواصل وفود الفقراء والتائهين والمرضي حتي يصل عددهم إلي عشرين شخصا, وبعد أسبوع تطردهم الشرطة فينسحبون في هدوء دون مقاومة, حتي حطوا رحالهم علي الطريق الزراعي بعيدا عن المدينة و: واصلت صفوف الوافدين تدفقها, أناس من كل ناحية, يأتون, يضعون حقائبهم, ويقصون حكاياتهم, وأخبار المليارات التي تسرق هناك, والحرائق المدبرة التي تلتهم التاريخ والوثائق والمباني العريقة, العبارات التي تغرق في البحر بمن فيها والجميلات اللواتي يقتلهن رجال الأعمال العشاق لحظة غضب, والقطارات المغلقة علي الموت, وانفجارات المظاليم في قرع الطبول الأعمي. وينتهي هذا المشهد الجلل بواحد من هؤلاء الغرباء المنسيين الذين يتبادلون الحكايات, وقد حمل فرع شجرة غرسة في الطين وعقد علي طرفه خرقة صغيرة راحت ترفرف بتراخ, مؤسسا مدينة أخري في الخلاء الفسيح ليسكنها المبتلون الغلابة المطرودون. وفي قصة كناري يناجي الراوي عصفورته الصغيرة وتبادله المناجاة وهما يعيشان معا, ثم يعن لكناري ان تطير به في السماء لبعض الوقت, ويأخذ هو في يده ويجتازان الانهار والبحيرات ويصعدان إلي جبل ويهبطان منه, وكناري تدفعه بكل قوة للتغلب علي خوفه ليهبط الجبل, وقبل أن يغلبه النوم من التعب تغني له: نم ياصغيري لا تخف, لا شيء ولا أحد في الغابة يجرؤ علي تهديدك, انها الآن تحرسني وتحميني, اتظاهر بالنعاس, ويدخل الليل العميق وهي واقفة بداخله كالنور, اختلس نظرة اليها فتنهرني بكبرباء: نم لا تخف. أما في قصة بط أبيض صغير فكل ما جري للراوي ان نعوش الأطفال الفلسطينيين تدفقت من شاشة التليفزيون إلي المنضدة وإلي أرض الصالة في بيتي, نعوش صغيرة, تهرول نحوي مرفوعة علي أكتاف رؤوس الآباء المحنية وتختبيء تحت الارائك والمقاعد قبل أن تشن عليها غارة أخري ومايلبث هؤلاء الأطفال أن يتحولوا الي بط أبيض صغير يملأ بيت الراوي ويزاحمه بأجنحته البيضاء التي تضرب في الهواء والريش الخفيف المتطاير في الجو تحاصر الراوي نظرات البط التي تتطلع إليه بنظرات مبهمة, فيحدق فيها هاتفا: وهل أنا المذنب الذي يلقي بالقنابل علي الأطفال؟ علي هذا النحو يمضي الخميسي بلا ضجيج, مازجا بين الواقعي والمتخيل ليصيغ سبيكة من الألم والقهر والخوف والموت, ولاحاجة للجوء للصراخ او الكلمات الضخمة الرنانة أو الحواشي الزائدة, فهو يملك الألم الصافي النقي, وفي الوقت نفسه لايحتاج الكاتب لحكاية مايحكيها لقارئه, لأنه يملك المشهد الصافي أيضا والمكتوب بأقل عدد ممكن من الكلمات, حيث تتحول نعوش الأطفال الفلسطينيين الي بط أبيض صغير لاينفك ينمو وينمو محاصرا الراوي, وحيث تتحول كناري الي رفيقة للراوي تحمله إلي أجواز الفضاء, وحيث يقيم المبتلون والغلابة والمطرودون مدينتهم بمجرد أن يغرس أحدهم فرع شجرة غرسة في الطين. وليس من قبيل المصادفة أن أغلب قصص مجموعة كناري لاتتجاوز صفحتين أو ثلاثا, ومع ذلك فهي محملة بالكثيرمما سكت عنه الكاتب, لكن ماسكت عنه موجود بقوة, فهي قصص علي وشك الانفجار علي الرغم من هذا الهدوء الظاهري واللغة المتقشفة والمشهد شبه المحايد. ففي قصة طفل في قفص لايحدث شيء, وليس هناك سوي طفل في قفص مربوط في دراجة يقودها الرجل, وعندما تلتقي عينا الراوي الغريب الذي لن يصارع من أجل شيء أو ضد شيء, بعيني الطفل: تجمد مكانه, وأحس أن قلبه ينخلع من مكانه, وغمره ذهول مثل سماء صافية, وتعلق بصره بالدراجة التي تنأي, وجاشت كل نفسه بحب ودموع, ومد ذراعا في الهواء نحو الدراجة البعيدة هاتفا: يا ابني..ياابني... وفي قصة حصان أحمر يري الراوي الطفل حصانا احمر بين الحقول, وحين يحكي لجدته في المساء عما رآه متسائلا, تجيبه: لم تكن هناك أرض مثل غزة تجري فيها الدماء بهذه الوفرة, فولد المهر رأي الحصان الاحمر الذي رآه الطفل, وشب, اذا خبابين البيوت والدكاكين في أزقتها المبلطة تشبعت قوائمه بالدماء وإن ركض إلي الميادين المفتوحة غطت صدور رقبته الدماء من ورش العمال وأفران الخبز, وحين يرمح بعيدا هاربا الي الحقول يغمره الأفق بالدم, وأصبح المهر حصانا فردا وخرجت الخيل كلها تشق طريقها إليه من بحر البقر وشبعا وصبرا وشاتيلا ورام الله والجولان. من أجل كل هذه الدماء اكتسب الحصان لونه الأحمر, لذلك لايحتاج الكاتب للصراخ والعويل ولطم الخدود الآن المشهد أكثر توحشا وعنقا, ويكفي أن الدم والحصان بلون واحد. القصص التي أشرت اليها فيما سبق اخترتها عشوائيا من المجموعة فكل قصص الخميسي في كناري تمنحنا الكثير من الألم والقليل من الفرح, لكنها في كل الأحوال محكمة تبدو هادئة علي السطح لكنها علي وشك الانفجار.