بخطوات متثاقلة أخذ والد إحدى الفتيات يسير نحو الباب الرئيسى لمستشفى مبرة المعادى، يملؤه يقين بأنها لاتزال على قيد الحياة، ويتسرب إلى داخله شك بأنها راحت ضحية الحادث المؤلم، تسبق خطواته صرخة أم خرجت من مشرحة المستشفى واكتشفت أن طفلتها التى لم تتجاوز الحادية عشرة من العمر ماتت غرقا أثناء استقلالها مركباً نيلياً فى ظل رحلة أقامتها كنيسة مارجرجس للطالبات. الأب يخطو نحو باب المستشفى يتفقد أسماء الفتيات الناجيات من الغرق والمعلقة على باب المستشفى ليجد أن ابنته ليست فيهن، فيسارع خطواته ويجرى نحو مدير المستشفى يرجوه أن يخبره بأن ابنته لا تزال على قيد الحياة، فيجيبه قائلا: هناك مفقودون فى الحادث، وباقى الحالات نقلت إلى المشرحة، لا يجد الطبيب كلمات أخرى يقولها إلا: «عليك التعرف على جثة ابنتك بين الجثث الموجودة بالمشرحة».. قبل أن يكمل الطبيب كلماته يسقط الأب مغشيا عليه، وتتعالى الصرخات، وتنفجر السيدات فى البكاء، يجرى الطبيب الإسعافات الأولية للأب ويفيقه من الصدمة، يحاول الأب تمالك نفسه أمام الجميع، يرتكن إلى جدار المستشفى، يأتى إليه أحد ضباط الشرطة يحاول إقناعه بضرورة التعرف على الجثة، لأن الفتيات فى سن صغيرة ولا توجد لديهن بطاقات تعريف الهوية ولا يمكن التعرف عليهن إلا من خلال أولياء الأمور..لحظات من الصمت تسود المكان لا يقطعه إلا صوت الأب المكلوم وهو يقول فى ضعف «عايز أشوف بنتى.. دخلونى المشرحة أعرف إن كانت هى.. ولا لأ». لحظات فارقة هى تلك التى يستدعى فيها ضابط الشرطة مسؤول المشرحة ويأمره بفتح بابها لكى يتعرف الأب على ابنته بين باقى الجثث.. تأتى الممرضة المسؤولة عن المشرحة ومعها المفتاح تلتف أنظار الواقفين حولها، إلى أن تفتح الباب ويدخل معها الأب وضابط القسم وطبيب المستشفى، دقيقة واحدة من الصمت الذى يسكن المكان كله ينفجر بصرخة عالية من داخل المشرحة لا يسمع منه إلا كلمات «أيوه هى دى بنتى..». دوى سقوط الأب على الأرض يهز باب المشرحة إلى أن يخرج الضابط والطبيب يسندان الأب، الذى فقد الوعى، ويقوم الطبيب بإسعافه لكنه رغم إفاقته يدخل فى غيبوبة بين الحين والآخر ويتهته بكلمات يلوم نفسه على كونه وافقها على الخروج إلى الرحلة، ويلوم المسؤولين مرة أخرى بقوله: «منكم لله.. موتوا بنتى». المشهد نفسه يتكرر بين الحين والآخر مع اختلاف أولياء الأمور، يزدحم مدخل المستشفى بعدد كبير من أولياء الأمور الذين سمعوا بالخبر من المشرفين بالكنيسة، جاءوا جميعا يبحثون عن ذويهم، تجلس سيدة مسنة على مقعد فى ساحة الانتظار، تكتم أنفاسها وتحاول جاهدة أن تتمالك نفسها، فبعد أن أخبرها الأطباء بأن ابنتها ليست من الناجين ومحتمل أن تكون على قيد الحياة، لم تحاول الجدال وبقيت فى ساحة الانتظار على أمل أن تجد فتاتها الوحيدة بين الناجين، شىء ما يتسلل بداخلها يجعلها رغم الصمت تبكى فى حرقة وتحاول أن تكتم صرختها كلما شهدت ولى أمر إحدى الفتيات يسقط مغشيا عليه من جراء الصدمة. الفتيات اللاتى حجزن فى الرحلة ليست كلهن من أهالى القاهرة فهناك من جاءت من صعيد مصر من أجل التنزه مع بنات خالها المقيمات فى القاهرة، وهو ما صرح به ولى أمر إحدى الفتيات قائلا: «دى بنت أختى جاية زيارة عندى.. مش عارف أقول إيه لأمها».. الصدمة جعلته يضرب أحد الواقفين فى المكان كما لو أنه أصيب بمس جنونى، وهو ما دفع العساكر والضباط الموجودين بالمكان بالالتفاف حوله، وتهدئته بقولهم «دى إرادة الله.. وقدر مالناش ذنب فيه» ينتهى به الحال إلى إجرائه مكالمة تليفونية لوالدة الفتاة قائلا لها: «اركبى وتعالى.. بنتك ماتت». ومن هول صدمة الأهالى إلى هول الحدث ذاته تحكى «رانيا - طالبة بالصف الأول الإعدادى - إحدى الناجيات» قصتها مع الغرق بأنفاس متقطعة وتأوهات تطلقها بين الحين والآخر، وملابس لم تجف بعد أن تبدأ كلامها قائلة «شفتهم بيموتوا.. معرفتش أعمل حاجة».. ترتجف فى حديثها وتقول: «المركب كان صغير قوى وعددنا كان كبير إحنا حتى مالحقناش نتحرك بالمركب، لأنه غرق بعدما بدأ يتحرك بحاجات بسيطة»، تتحدث رانيا عن برنامج الرحلة الذى وضعته الكنيسة للصغيرات قائلة: «برنامج الرحلة بدأ بأدائنا الصلوات داخل الكنيسة، ثم بدأنا التنزه داخل حديقة النيل بالمعادى، لينتهى البرنامج برحلة نيلية فى مياه نهر النيل، وقبل أن يبدأ المركب فى الحركة من مرسى المركب داخل الحديقة وعلى بعد أمتار قليلة من الشاطئ تسللت المياه إلى المركب الذى كانت على حمولته 20 فتاة أعمارهن لا تزيد على ال17عاما.. صرخة الفتيات لمحاولة إنقاذهن لم تحم الكثيرات من الغرق، إلا قليلات كن قد تعلمن العوم من قبل. ظل مشرف الكنيسة يتجول فى طرقات المستشفى يتابع تطورات الحادث رافضا التحدث للصحفيين ويمنع مدير المستشفى من التحدث إلى الصحفيين عن الحادث، بحجة أنها تعليمات وليس لديه الحق فى التحدث عنها.