لا تصدقوا الخرافة التى تقول إن «الصحافة هى مهنة البحث عن المتاعب»، أولا لأن المتاعب فى بلادنا صارت متوافرة أكثر من متسولى الشوارع وتصريحات الحكام، ولم تعد تنتظر من يبحث عنها بل إنها «تلقح جتتها» على كل خلق الله، وثانيا لأن الصحفى كائن محظوظ، يسمع من هذا وينقل إلى هؤلاء، أو «يتنفخ» فيصبح كاتبا، ويصير من حقه أن يكتب «أى كلام» ويقول لك رؤيتى، والأبعاد، والأعماق، والرمز المخفى بين السطور، وما إلى ذلك، والأظرف من هذا كله أنه يستطيع أن يعتذر عن الكتابة من المنبع، ومع ذلك يظل محتفظا بمساحته على طريقة كراسى السلطة فى مصر، ولافتات «هذه الأرض ملك فلان الفلانى...»، حيث تظهر لك صورة الكاتب الذى لم يكتب، وعنوان مقاله الذى لم يكتبه، وأسفلهما «عبارة الحجز».. الأستاذ يعتذر عن عدم الكتابة هذا الأسبوع ويواصل فى العدد القادم، أو بعد عودته من السفر، أو بعد انتهائه من «السبوبة» التى تشغله. سألت نفسى يوما: هل يمكن تعميم تجربة الصحفيين على السياسيين بحيث نقرأ مثلا أن المسؤول الفلانى يعتذر هذه الأيام عن تمرير الصفقات وترتيب السهرات لشعوره بوعكة فى ضميره، وسوف يعاود نشاطه بعد علاج بسيط بالمسكنات، أو نقرأ مثلا.. مثلا.. أن «الرئيس يعتذر عن عدم الحكم هذا الأسبوع، وسوف يعاود لاحقا»؟.. المقارنة تبدو عبثية ومجنونة، لكن «هاتولى حاجة مش عبثية ومش مجنونة فى هذه المرحلة، وأنا أبطل عبث وجنون». ذات مرة حكى لى صديقى السابق/ رئيس التحرير القومى الحالى نكتة جريئة عن مجموعة من المتعصبين كانوا يعملون فى مجال التنقيب عن الآثار، وكلما وجدوا جدارا مثلا، قالوا جدار مسجد، وكلما وجدوا مومياء، قالوا الخالق الناطق الشيخ فلان، وكلما وجدوا سيفا حتى ولو مكسوراً يقولون: إنه سيف خالد بن الوليد، وفى إحدى الحفريات بمنطقة مصر القديمة وجدوا صليبا، فصمتوا لحظة قبل أن يهتف أحدهم بغباء «سبحان الله، وجدنا صليب سيدنا محمد»! وقد استشهدت بهذه النكتة كثيرا، فى معرض شرحى لنظرية الصرصار عن التعسف فى تأويل الكلمات والمواقف، لكننى أراها الآن ملائمة جدا، لأولئك الذين ينتظرون غياب الرئيس مبارك عن المشهد يوما، فيطلقون لأمنياتهم وشائعاتهم العنان، الرئيس مرض، ويسافر سرا للعلاج فى ألمانيا.. زيارة فرنسا كانت زيارة علاج سرية، وهؤلاء الصحفيون يجدون صحفا تنشر، ومواقع تروج، وجماهير تصدق، وهكذا تتحول التخمينات إلى حقائق تناقشها المقاهى والفضائيات وتتأثر بها البورصة والدوائر السياسية، وفى النهاية تنفثئ الفقاعة لننتظر «الافتكاسة» المقبلة، ما علينا، إذا كان الرئيس يخفي، ومصادر مقربة من الرئاسة تنفي، فما علينا إلا نتيقن، خاصة أن الموضوع محل التخمينات هو اليقين الوحيد الذى لايمكن إخفاؤه أو استبعاده بالإرادة، لكن الصحفى «المخبر» مسكين، لأنه ليس لديه ترف الصحفى «المنتفخ» المتسلح بصورة ومساحة مقال يتحفنا فيها بما يشاء، ويعتذر وقتما يشاء، فالأخبار صارت سيد الموقف فى الصحافة الحديثة، لا مجال للعقل والتريث، لأن «السبق» تقدم على الموضوعية، والغوغائية تقدمت على العقل، ليس المهم أن تقول الحقيقة.. المهم أن تجتذب الزبون، وإذا لم يكن لديك ماتقوله، فلابد أن تملأ المساحة البيضاء بأى شىء حتى لو كان خرافات، المهم معيار جذب أكبر عدد تستطيعه من الجمهور، وخير دليل على ذلك، مقالى هذا، فهذه الكلمات المشتتة كافية لسد بياض المساحة، كما أنها حيلة جديدة للاعتذار، بدلا من العبارة القديمة التى كانت ستحرجنى معكم لأننى لست مريضا ولا مسافرا، وليس من المعقول أن أتجاسر وأكتب لكم السبب الحقيقى بلا «تزويق» فأقول «الأستاذ يعتذر عن الكتابة وعدم الكتابة معا، لأنه محبط من العيشة واللى عايشينها». [email protected]