«من يطرد الأرواح الشريرة»؟.. يبدو أن ذلك هو السؤال أو الهاجس الذى يشغل أذهان كل الهولنديين فى ذروة رحلة المصير لمنتخبهم الوطنى الشهير بالطاحونة البرتقالية والذى سيلتقى غدا «الأحد» المقبل مع منتخب إسبانيا فى اللقاء النهائى لمونديال 2010 بجنوب أفريقيا. فرغم أن منتخب هولندا صعد مرتين للقاء النهائى لبطولة كأس العالم فى مونديال 1974 بألمانيا ومونديال 1978 بالأرجنتين وقدم للمستطيل الأخضر نجوما لامعة بحق مثل النجم الطائر يوهان كرويف فإنه لم يتمكن أبدا من الفوز باللقب العالمى حتى بدا وكأن هناك أرواحا شريرة تحول دون فرحة أمة مولعة بالساحرة المستديرة بتتويج منتخبها فى العرس الكروى العالمى. كان منتخب هولندا قد صعد للمباراة النهائية للمونديال ال19 بعد فوزه على منتخب أورجواى بثلاثة أهداف مقابل هدفين فى واحدة من المباريات التى اتفق العديد من النقاد والمعلقين على أنها من المباريات الممتعة حقا فى هذا العرس الكروى العالمى وتجلت فيها فنون الساحرة المستديرة. وفى رحلة الصعود أطاحت الطاحونة البرتقالية براقصى السامبا من دور الثمانية فى مونديال 2010 بعد أن فازت بهدفين مقابل هدف واحد مخلفة حسرات فى نفوس عشاق الكرة البرازيلية بقدر ما بدت رحلة الصعود للقاء النهائى فى العرس الكروى العالمى لأول مرة منذ عام 1978 هى رحلة المصير للكرة الهولندية. الزى الرياضى لمنتخبه بعد أن وصل لنهائى المونديال إنما هو «عناق للون واعتناق للفكرة التى يعبر عنها هذا اللون» فيما تتردد المقولة الطريفة: «معنى أن تكون هولنديا هو أن تكون برتقاليا وألا ترتدى إلا كل ما هو برتقالى». ومع أن علم هولندا يحمل الألوان الأحمر والأبيض والأزرق فإن اللون البرتقالى يومئ فى واقع الحال للعائلة المالكة فى هذا البلد الأوروبى. وفيما تحولت هولندا إلى كرنفال برتقالى فإن موروث التاريخ الكروى لهذا البلد يحمل الكثير من مشاعر المرارة حيال بطولات كأس العالم التى يرى الهولنديون أنهم كان لابد أن يفوزوا فيها ويتوجوا بلقب المونديال فيما تتردد مقولة لها مغزاها وهى أن «منتخب هولندا هو المنتخب الذى يتخلى دوما عن جماهيره ويخذلها، غير أن هذه الجماهير لا تتخلى أبدا عن منتخبها الوطنى». وتجلى ارتباط الهولنديين بمنتخبهم الوطنى فى مشاهد متعددة أثناء مونديال 2010 من رقص وقفز فى المدرجات وعناق وأحضان حميمة عقب كل انتصار حققه الفريق البرتقالى فى طريقه الطويل للقاء النهائى فى العرس الكروى العالمى ببلاد البافانا بافانا. ولأول مرة منذ سنوات طويلة بدت الساحرة المستديرة تبتسم لهذه الأمة المهووسة كرويا إذ بدا أن مونديال 2010 هو المونديال الذى يظهر فيه اللاعبون على ما يرام وفى حالة رائعة شأنهم شأن جماهير المشجعين الذين لم يبخلوا أبدا على لاعبيهم بالتشجيع رغم أن هؤلاء اللاعبين خيبوا آمالهم مرارا وتكرارا ومع ذلك فإن أغلب النقاد اتفقوا على أنه لا يمكن وصف أداء الطاحونة البرتقالية أمام منتخب أورجواى فى المربع الذهبى ب«الأداء المثالى أو الذى يضمن كأس العالم لهذا الفريق». ومن هنا أيضا فإن تاريخ كرة القدم الهولندية فى جوهره لم يكن أبدا بعيدا عن فلسفة تحكم هذا الشعب فى ضوء معطيات الجغرافيا القاسية وطغيان البحر فهناك سعى دائم للوقوف مجددا رغم قسوة الضربات وهناك حلم أبدى بالصعود بعد السقوط عبر حركة لا تتوقف ونزعة عملية تفاؤلية كترياق لعوامل التشاؤم وهى كثيرة ومتعددة، وكأن لسان حال الهولنديين يقول: العيش دون السعى إلى المحال هو الموت. فى مواجهة قهر الضرورة وعذابات الجغرافيا وطغيان البحر وغضبه على بلادهم لم يتخل الهولنديون عن حلم الحياة الحقة فى عالم يعيش فيه كثير من الأحياء كالموتى وسط فراغ وخواء بعد أن ضاع منهم الحلم الكبير أو ضيعوه، وبعد أن عجزوا عن الإمساك بحقيقة غنى الحياة وخصوبتها رغم كل ما يبدو على السطح من محن وهزائم قد تدفع بالفعل للشعور بالعجز. ولعل هذه التركيبة الهولندية تتجلى بوضوح على المستطيل الأخضر عندما لا يتردد مدرب منتخب الطاحونة البرتقالية فى تغيير الخطة وأسلوب اللعب بسرعة أثناء المباراة كما حدث فى منازلة المربع الذهبى مع منتخب أورجواى. وإذا كان من حق برت فان ميرفيك، المدير الفنى لمنتخب الطاحونة البرتقالية، إن يشعر بالسعادة لصعود فريقه لنهائى المونديال لأول مرة منذ 32 عاما فإن مجرد الصعود للنهائى دون الفوز بالكأس لن يكفى الهولنديين هذه المرة وكما قال لاعبه فيسلى شنايدر: «فى كرة القدم لا يوجد ما هو أهم من الفوز بكأس العالم» وهو الحلم الذى يداعب الآن كل الهولنديين. فهل تبتسم الساحرة المستديرة غدا «الأحد» لأصحاب اللون البرتقالى فى لقائهم مع الماتادور الإسبانى أم تتكرر مأساة كادت تكون عقدة تاريخية مستعصية حتى إن هناك من يقول إن هولندا تخفى مخاوفها وسط غابة الألوان البرتقالية، وإن صيحات البهجة التى تطلقها الحناجر عاجزة عن إخفاء أصوات مطارق الخوف فى القلوب. ستقام المباراة الفاصلة الحاسمة فى مكان غير بعيد عن موضع فى المحيط تحطمت فيه سفينة هولندية عام 1647 كانت تحمل أول مجموعة من الهولنديين لكيب تاون، فهل يكون مصير المنتخب البرتقالى أفضل من مصير السفينة المحطمة؟ هناك حاجة ماسة لطرد أرواح شريرة حالت طويلا دون أن تحقق أمة مجنونة بالساحرة المستديرة أحلامها المونديالية على المستطيل الأخضر فى كل بطولات كأس العالم.