«خلوا الآلات تكتب لكم»

بصوت أقرب للهمس، بتراتيل الخفاء تتسلل إلى النفس، تغتنم لحظة صفاء أو صدق مع النفس، لتخبرنا الأغنية بالحقيقة التالية:
«خلوا الآلات تكتب لكم، تحسب لكم. خلوها تعمل شغلكم. لكن محال. أيوه محال. تحلم لكم. تحلم لكم».
منذ كم من عشرات السنين سمعتُ هذه الأغنية. كنت شاباً فى مقتبل العمر لا يكف عن الأحلام. يرمق السماء ذات النجوم ويحلم. يرمق قمم الأشجار وأسراب العصافير ويحلم. تطلع الشمس فى أفق روحى قبل أن تشرق فى السماء. وإذا جاء الليل لوّنت القمر بلون بللورى ناصع قبل أن أُخرجه للعشاق. أفعل ذلك كل ليلةّ. لذلك كانت مطالبتى ب«الحلم» تحصيل حاصل.
«الغنوة هى الحلم والسفر البعيد/ لبلاد جديدة ولقمر تانى جديد/ حبوا وغنوا واحلموا/ عيشوا الحياة واتعلموا! من فضلكم».
واليوم بعد ثلاثين عاماً يعود اللحن القديم. يعود فيطرق الباب وينتظر. العاشق القديم لم يعد هو العاشق القديم. صار مشغول الرأس بآلاف الأعمال المطلوبة منه. متطلبات ومسؤوليات، ومهام ينبغى القيام بها، وجبال من هموم.
بالضبط كما تقول الأغنية: «زحام شوارع على البلد فارد إيديه/ قاعد بيخنق كل حاجة حلوة فيه/ وكل واحد ماشى وسط الناس/ عينيه مش شايفه غير- يا دوب- رجليه!».
يحاول أن يتذكر: متى رأى القمر لآخر مرة؟ وهل ما زال فضياً أنيقاً رغم القبح والعشوائيات! وكيف هى منازله اليوم؟ أهلالاً أنحفه الغرام؟ أم بدراً استوى بالوصال والهيام؟. افتقدتك كثيراً يا قمر طيلة ثلاثين عاماً؟.
الأغنية من روائع فرقة «المصريين». كتبها الشاعر «عمر بطيشة» وغنتها «إيمان يونس». ولحنها هو السحر الحلال. أشبه بهمسة من القلب إلى القلب. عنوانها: «انتبه». انتبه إن الحياة ليست كلها كسب العيش. والكون أرحب بكثير من حسابات بنكية أو خطط مستقبلية. وإنك ابن هذا الكون، إن جافيته كتبت على نفسك التعاسة.
«طوابير فى كل مكان وناس مستعجلين/ عايشين على القهوة وقرص الإسبرين/ وكل واحد إما داين أو مدين».
تنبهنا الأغنية إلى النعم التى نغفل عنها. فهناك الطبيعة التى لم تعد تتفاعل معها. وهناك خلان أضعتهم فى رحلة الحياة، تسللوا واحدا بعد الآخر من جيب قلبك المثقوب. وهناك أقارب لم تعد تذكر أسماءهم. ومساحات للود تنتظر منك أن تزرعها وروداً وعشباً أخضر. مسرات استعانت بها البشرية على مشقة الحياة أجيالا بعد أجيال. لكننا نسير بعقول نابحة وعيون عمياء، لا تنظر إلا إلى الداخل فقط.
ثم يأتى ختام الأغنية ليلخص كل شىء!. «بقى لو صحيح اتقدمنا/ كنا نضيع أحلامنا/ ونبيعها بشوية جنيهات!!».
سؤال استنكارى يحمل جوابه. يقول إنه لا شىء أثمن من الإنسان. لا شىء أغلى من الحب والأحلام.
aymanguindy@yahoo.com