القرآن الكريم كنص لغوي معجز وفريد اتسم بالدلائل اللغوية الشاهدة على إعجازه ، فمثلاً نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى : وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (آل عمران : 42)، فكلمة (اصطفاك ) الأولى بمعنى اختارك ، والثانية بمعنى فضلك ، وهذا النوع من التكرير للكلمات والأصوات يثير في النفس إحساساً بجمال التعبير ، من خلال تجاوب الأصوات وتناغم الأصوات. ومن أسباب جمال الجناس في التعبير القرآني ، تلاؤم الحروف وتناسب الألفاظ ، فيحدث التجاوب الموسيقي الصادر من تماثل الكلمات تماثلاً كاملاً أو ناقصاً ، ويلخص الفيروز أبادي هذه الفائدة بقوله : " وأما تلاؤم الكلمات والحروف ففيه جمال المقال، وكمال الكلام" ، نحو قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (البقرة: 24). وفي السطور الآتية نورد عدداً من الأمثلة بغير إخلال أو تفريط إن استطعنا ذلك و التي توضح وتشير إلى اختلاف دلالة اللفظ الواحد باختلاف وروده وذكره في سياق لغوي معين . 1 البَغْتَةُ والفَجْأةُ : اكتسبت لفظة البغتة من السياق القرآني إيحاءً خاصاً بها ، فهي في أصل اللغة: مشتقة من باغَتَه مباغتةً: أي فاجأه بَغْتَةً . والبغت : مُفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب. إذن (البغتة) في اللغة تعني (المفاجأة) ،فهما لدى غير المدقق في المعنى اللغوي بمعنى واحد. أما في الاستعمال القرآني فهما متباينان ؛ إذ احتملت (البغتة) عنصراً دلالياً إضافياً على الفجأة؛ لأن هذه اللفظة لم يستعملها السياق القرآني نهائياً ، ولو تتبعنا سياق البغتة في القرآن كله ، بورودها ثلاث عشرة مرة ، لوجدنا فيها عنصراً دلالياً إضافياً ، وهو (التخويف بالعذاب) . واستقراء الآيات يؤدينا إلى أنها لا تستعمل إلا في سياقين لا ثالث لهما ، أحدهما: الوعيد بوقوع القيامة . والآخر: الوعيد بوقوع عذاب في الدنيا وشيك، كما في قوله تعالى يؤكد فيه وقوع العذاب على الكافرين ، بموعد ثابت قادم هو يوم القيامة ، إذ قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (العنكبوت : 53) ، وفي قوله تعالى يبين فيها طريقة مجيء العذاب للكافرين يوم القيامة ، حين يأتي مفاجئاً: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا (الأنعام : 31) . وقد اكتسبت البغتة في السياق القرآني إيحاءً خاصاً بها ، هو العذاب ، فضلاً عن المعنى اللغوي الذي تحمله وهو (الفجأة) ، وعند مجيء الساعة والعذاب للكافرين دون توقع لوقته مع الايذاء لمن لم يُعدّ لتلك الساعة العدّة ، من الهداية والإيمان. ولا يعلم أحد متى مجيء هذه الساعة. وقد تنبه بعض المحدثين إلى أن السر في استعمال السياق القرآني لفظة (البغتة) فقط دون لفظة ( الفجأة) ، مع أن لهما المعنى اللغوي نفسه ، وهوأن في البغتة عنصراً دلالياً إضافياً غير موجود في الفجأة ، بل هو زائد عليها، وهو (التلبس بالعقاب) دنيوياً كان أو آخروياً ؛ وبذلك فإن لفظة (الفجأة) لا تمنح السياق الإيحاء الكامل المعبّر عن الحدث القرآني بشكل دقيق وكامل كما تمنحه لفظة ( البغتة) ؛ لأن الثانية اكتسبت من السياق القرآني معنىً إضافياً ، هو الإشعار بالأذى والعقوبة. 2 القَدَرُ : من الألفاظ التي تباينت دلالتها أيضاً في القرآن الكريم باختلاف ورودها داخل سياق النص القرآني المطهر لفظة ( القدر ) ومشتقات حروفها الأصلية الثلاثة وهي : ق د ر، فغالباً ما نجد معنى القضاء مرادفاً مماثلاً لكلمة القدر كما في قوله تعالى : مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (الأحزاب : 38) أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ، وأيضاً قوله تعالى : نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( الواقعة :60) أي صرفناه بينكم ، وقال الضحاك :ساوى فيه بين أهل السماء وأهل الأرض. ولكن تعددت دلالات كلمة (القدر ) في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، فمن تلك الدلالات ورودها بمعنى (التمكن) كما في قوله تعالى : لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (إبراهيم:18) أي فلم يقدروا على شئ من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا ، وقوله تعالى : حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24) وفي هذه الآية الكريمة ضرب الله تبارك وتعالى مثلاً لزهرة الحياة وزينتها ، وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام ، ومعنى قادرون عليها أي على جذاذها وحصادها فبينما هم كذلك إذا جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها . وجاءت لفظة( القدر) بمعنى ( التدبير ) في القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى في سورة طه : فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (طه:40) يقول الله تعالى مخاطباً لموسى (عليه السلام) : إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملأه يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ،ثم جاء موافقاً لقدر الله وإرادته من غير ميعاد ، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ولهذا قال تعالى : ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ، أي على موعد وهذا رأي مجاهد ، وقال قتادة : على قدر الرسالة والنبوة. وقوله تعالى : إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (المدثر:1820) أي إنما أرهقناه صعوداً لبعده عن الإيمان لأنه فكَّر، و قَدَّرَ أي تروَّى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ماذا يختلق من المقال . وجاءت لفظة ( القدر ) بمعنى التوقير والتعظيم مثل قوله تعالى : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ(الأنعام:91) أي وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في قريش ، واختاره ابن جرير ، وقيل نزلت في طائفة من اليهود، وقيل في فنحاص وهو رجل منهم ، وقيل في مالك بن الصيف ، والأول أصح ؛ لأن الأية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد (صلى الله عليه وسلم) لأنه من البشر، ومثل قوله تعالى : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الزمر:67). وأتت مُشتقات كلمة (القَدَر ) في القرآن الكريم بدَلالاتٍ مختلفةٍ ، فمنها ما أشارت إلى معنى (التحديد) كقوله تعالى : وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( المؤمنون:18) ، وفي هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر ، أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران ، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار ، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به ، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر ، ويقال لها الأرض الجرزيسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها ، فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر ، فيسقي أرض مصر ، ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه ؛ لأن أرضهم سباخ يغلب عليهم الرمال . وقوله تعالى في سورة الزخرف : وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(سورة الزخرف:11) .أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم، وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم. وجاءت لفظة القدر بمعنى (التضييق والابتلاء) مثل قوله تعالى : اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ(سورة الرعد:26) ، يذكر الله تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر على من يشاء ، لما في ذلك من الحكمة والعدل ، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالاً . وقوله تعالى : وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ(سورة القصص:82) أي ليس المال دليلاً على رضا الله عن صاحبه ، فإن الله يعطي ويمنع ، ويضيق ويوسع ، ويخفض ويرفع ، وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب"، وقوله تعالى في سورة القلم : وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(سورة القلم:25) ، أي قوة وشدة ، وقال مجاهد : على جد ، وقال عكرمة : على غيظ ، و قَادِرِينَ أي عليها فيما يزعمون ويرومون. 3 السَّغب والجُوعُ: جاءت لفظتا ( السغب ) و ( الجوع) بإيحاء خاصٍ بهما في التعبير القرآني . فالسغب لغة: مشتق من سَغَبَ يَسْغب سُغُوباً ومسغبةً . والساغِب : الجائع ، والسَغبُ : الجوع من التعب . وقد قيل هو في العطش مع التعب . وهي مرادفة للجوع . و(السغب) و(الجوع) لفظتان ، أكسبهما التعبير القرآني ، إيحاء خاصاً بهما، فضلاً عن معناهما الأساس ( المعجمي) . فإذا ذكر الجوع في النص القرآني، فلا يكون إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع ، والعجز الظاهر ، بقرينة السياق . وقد وردت لفظة (الجوع) في التعبير القرآني خمس مرات ، كانت في ثلاثة مواضع منها مقترنة بلفظة (الخوف) ، فيكون السياق بهذه القرينة ، سياق ابتلاء وامتحان ، أو عقوبة لأصحاب النار ، كما في قوله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة 155) ، أخبرنا الله عز وجل أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ، فقد ذكر الجوع في موضعين منفرداً، ولكن قرينة السياق كانت واضحة في أنه عقاب وبلاء ، وذلك في قوله تعالى يخاطب فيها نبي الله آدم بأنه محفوظ في الجنة من بلاء الجوع والعُري ،وذلك قبل نزوله إلى الأرض:إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (طه: 118) . فيكون عدم الجوع فيها نعمة من نعم الله تعالى عليه وعلى زوجه. أما لفظة (السغب) فتذكر مع الرحمة و (( في حالة القدرة والسلامة)) ، نحو قوله تعالى يحث المؤمنين على إطعام الناس في يوم الجوع : أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (البلد : 14) ، بقرينة السياق المتأخرة في قوله تعالى : يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (البلد : 15-16) . فبذلك تكون لفظة (الجوع) ، قد اكتسبت من التعبير القرآني هنا معنى العقوبة والبلاء من السياق القرآني ، أما لفظة (السغب) ، فقد اكتسبت معنى الرحمة، والضعف . 4 المَطَرُ والغَيْثُ : تُعد لفظة المطر من الألفاظ التي اكتسبت إيحاء خاصاً في التعبير القرآني أيضاً ، فالمطر لغةً يعني : الماء المنسكب من السحاب ، أما في التعبير القرآني ،فقد اكتسبت لفظته إلى جانب معناها المعجمي معنىً آخر، هو العقاب ، بقرينة السياق اللفظي. فالمطر لم يرد في التعبير القرآني كما يقول الجاحظ في كتابه " البيان والتبين " : " إلا في موضع الانتقام ، والعامة واكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث " . وقد وهِمَ الراغب الأصفهاني حين عدّ لفظ (المطر) من ألفاظ الخير، وأن هناك صيغة مشتقة منها هي التي وردت للتعبير عن العذاب ، وهي (أمطر) ،فقد ذكر أن مطر : " يُقال في الخير ، و(أمطر) في العذاب " ، وإذا رجعنا إلى النص القرآني نجده يعبّر بهذه اللفظة عن الشر والعقاب ، بكل اشتقاقاتها ، وبقرينة السياق، ومنه قوله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطرُ الْمُنْذَرِينَ (الشعراء : 173) أي أنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود . والمطر يوحي بالتدفق القوي والغزارة ، أكثر من أية لفظة أخرى تعبّر عن نزول الماء من السماء . والذي ساعد على هذا الايحاء ، صوت (الطاء) المطبق كما أشار الدكتور كمال بشر في كتابه " علم اللغة العام" ، الذي يصور نزول العذاب من السماء فنشعر بإطباقه عليهم . فبذلك تكون هذه اللفظة قد ناسبت غضب الله وشدة انتقامه بنزول ذلك العقاب الشديد عليهم من حجارة وغيرها . كالذي في قوله تعالى يتحدث عن قوم لوط : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الْمُجْرِمِينَ (الأعراف: 84) . فنلحظ أن لفظتي (مطر) و( أمطرنا) في النص القرآني قد دلّتا معاً على نزول العذاب الشديد ، لا نزول الغيث الذي هو نعمة ورحمة للعباد . ويشمل نزول المطر في التعبير القرآني ، فضلاً عن الماء ، الحجارة ، نحو قوله تعالى ، في إمطار الحجارة: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (هود: 82) ، أي أنه مطر يوحي بالعقم والخراب . والسجيل في اللغة: حجارة كالمدر ، وهو حجر وطين مختلط ، ويفسر أنه فارسي مُعرب دخيل . ويقال: هذا الشيء مسجل للعامة ، أي مرسل من شاء أخذه أو أخذ منه. أما الغيث فهو الماء النافع النازل من السماء ، المنبت للكلأ ، نحو قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (الشورى : 28) ، وهذا يعني أنه الماء المثمر الذي يحمل الخير معه، وذلك بقرينة السياق اللفظي المتأخر . والذي قوى هذا الإيحاء هو صوتا (الغين والثاء) فرخاوتهما كما يذكر الدكتور بسام بركة في كتابه " أصوات اللغة العربية " ، قد ناسبت نزول الماء الخفيف الذي أنعش ما نزل عليه، فأنبت به . 5 الفتح : أيضاً من الألفاظ التي اكتسبت إيحاء خاصاً في التعبير القرآني لفظة الفتح ، من الفعل الثلاثي فَتَحَ) ومشتقاته ، فلقد اختلفت دلالة الكلمة باختلاف السياق الي وردت فيه ، ودلت على عدة معاني منها الصد، والضد ، والعطاء ، والنصر ، والقضاء ، والحكم . فمن معنى الصد والضد قوله تعالى : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( الأنعام :44) ، أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم ففتح الله عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم . وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( الأعراف :40) ، وقيل في تفسير هذه الآية الكريمة أن المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء وقال بهذا مجاهد وسعيد بن جبير ، وقيل لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ورى ذلك الضحاك عن ابن عباس وبه قال السدي . ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال : " خرجنا مع رسول الله r في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله r ،وجلسنا حوله كأن على رؤسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : " استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال : فتخرج تسيل كما يسيل القطر في السقاء ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن ، وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، هذا بخلاف العبد الكافر . وجاءت لفظة (الفتح) بمعنى ( القضاء ) أو ( الحكم) كما في قوله تعالى : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( الأعراف :89) ، أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم وأنت يا الله خير الحاكمين فإنك العادل الذي لا يجور أبداً. وقوله تعالى : فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء:118) . ومن أمثلة ورود كلمة (الفتح) بمعنى أعطى قوله تعالى : قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( البقرة :76) ، أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به. وأيضاً ما أفادت الكلمة معنى أعطى قول الله تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( الأعراف :96) ، ويخبر الله تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس آي آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس فإنهم آمنوا ، وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، وقوله تعالى : لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أي قطر السماء ونبات الأرض . وجاءت لفظة ( الفتح ) بمعنى ( النصر ) كما في قوله تعالى : فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( المائدة:52) ، يعني فتح مكة ، وقيل : يعني القضاء والفصل ، وقوله تعالى : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال:19) ، يقول الله للكفار إن تستفحوا أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم؛ كما قال أبو جهل ، حين التقى القوم : اللهم اقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة؛ فكان المستفتح ، وقال السدي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين ، فقال تعالى : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ يقول: لقد نصرت ما قلتم وهو محمد r. المشهد.. لاسقف للحرية المشهد.. لاسقف للحرية