ترددت كثيراً قبل كتابة هذه الكلمات، فلم أتوصل حتى مولد المقال إلى ما ساحكي للقارئ، بل وكيف سأحافظ على عهدي مع نفسي بأن أكتب ما يعبر عني وعن جيلي، وأحاول – قدر استطاعتي – أن أدافع عن أهداف وقيم أمنت بها وتعلمتها بين الشباب في الميدان. لذا قررت أن تكون الفقرات القادمة حاسمة لما ينتابني من حيرة، لعلي أصل إلى ما كنت أبحث عنه بين السطور، ووسط الحروف المتشابكة لتخلق معاني لم نعرف غيرها وسط برودة الشوارع التي جابتها تظاهرتنا ضد انظمة الفساد، ونيران السجان، وزنازين الظلم والاستبداد. اصارع مشاعر مكبوتة، وكأنها حرب البقاء، بين الأمل المتجدد في غد تنتصر فيه أحلامنا، وأنظمة لم تعرف سوى قتل الثورات. الفقرة الأولي من هذا المقال قررت أن تكون عن الغائبة الحاضرة، المطعونة في نزاهتها، المتهمة دائما في عيون – وقحة – لا تؤمن بحق الوطن في الحياة، إنها الثورة، المارد الذي أشعل الشوارع والبيوت بالهتاف، عيش – حرية – عدالة اجتماعية ، في محاولة منه لإسترداد الأرض والكرامة، بعدما أحتلتها دولة الظلام المتشبعة بالفساد والممتدة جذورها لتلتف حول رقاب الشعب المسكين. أما في الفقرة الثانية فلابد أن تعبر عن جيل من الشباب، أيقن بحقه في التغيير، رافضاً كل المحاولات للألتفاف على ثورته، التى ضحى من أجلها بأعز ما يملك، فمنهم من قدم روحه، ومنهم من فقد بصره، ومنهم من فارق الصديق من أجل أن تشرق شمس الحرية الغائبة عن مصر لعشرات السنين. أما الفقرة الثالثة فهي دولة الظلم والظلام، وأباطرة أرادوا إسقاط الدولة شيئاً فشيئاً، نهبوها وسلبوها وجردوها من كل شئ، ليتبدل الحال ونعيش نحن الكادحين في أنظارهم ضعاف – عراة – وتزداد الثروات، وتشتد وطأة الذل والفقر والجوع، وليمت من يمت في سبيل السادة الكبار. الفقرة الرابعة وعود زائفة، قطعتها أنظمة مابعد الثورة، لكسب مزيد من التأييد، قطعت على نفسها عهودا لم تؤمن بها، أو تسعى لتحقيقها، بل كانت الكلمات الرنانة مجرد حفنة من الشعارات، يلتف حولها الغلابة طمعاً في أمانيهم، وتُعلق عليها طموحات البسطاء لتتحطم حياتهم مرة أخرى في صراع المصالح الخاصة مع الوطن، وتذهب الوعود مع الريح ويظل الظلم باق، الفقر باق، الذل باق، والفساد ممتد. الفقرة الخامسة عن نخب وثقنا فيهم، وأمنا بوطنيتهم، فألتف حولهم الملايين ليصنعوا منهم زعماء وقادة الحراك، انتسبوا للثورة وسكنوا فوق كتوف الثوار، وأحتلوا شاشات الفضائيات، وكل منهم يفسر ويهلل، يؤيد ويعارض، يطالب ويناشد، ونحن نصفق، ها قد وجدنا القادة العظام، ها هم أبناء مصر جاءوا ليقودوا السفينة إلى بر الأمان .. أوهام خائبة ونوم في العسل أستيقظنا منه على الصدمات، سرعان ما تبدل الحال من النقيض للنقيض، وتحول النخب من مصباح للنور بين العتمة، إلى مجموعة أزرار، فكفرنا بهم ونفرنا عنهم، رافضين أن نتبعهم كالقطيع بلا عقل أو حساب، وطالبناهم بالرجوع إلى صفوفنا من جديد لنعطيهم فرصة أخيرة للحياة، قالوا : حرب .. وطن .. شعارات ، فقلنا نحن : فقط .. القصاص. خذلونا مرات، وسمحنا لهم بالبقاء بيننا لسنوات، نأمل في أن يعود الرشد للعقول، أن تبعث الثورة في داخلهم من جديد، ولكن يبدو أننا كما صنعنا من الحكام فراعنة، صنعنا من النخب - أصنام. الفقرة السادسة والأخيرة تقاوم اليأس، بعد أن مات الصديق، وانكسر القلم، وانتكست الراية، انسجن الشباب وانتحر، ازداد الغلاء، وعادت القبضة الأمنية تمارس القمع بأشكاله، وانتشر الإرهاب، وتحكمت دولة العواجيز في مستقبل الوطن من جديد، وأستيقظ الحيتان ينهشون في جسد الوطن، وانفجرت القطارات، وأُستهدفت المنشأت، وتحمل السائق مسئولية إنقلاب الاتوبيس وقتل التلاميذ، وعاد الوزير فوق القانون .. والغفير في السجون. عودة للوراء محت مكاسب الثورة، أهدرت دماء الشهداء، خذلت جيل كامل من الشباب، قتلت في النفوس البسمة والأمل، فتحت المجال لليأس والهروب، الموت في سبيل الخروج من بلاد عشقنا ترابها، وتغنينا بأسمها، وصادقنا الموت خلال رحلة استردادها. ونتيجة لما سبق، ولأننا نعيش في عهد لم يختلف كثيرا عن سابقيه، بل تميز باجراءات اكثر جمودا، وخطاب اكثر فرقة، وإعلام أكثر فسادا وتضليلاً، كان الانتحار هو البديل الوحيد لجيل حلم بالتغيير والحياة الكريمة وقوبلت أحلامه بالكرباج، فقد الثقة في الجميع، نخب – نظام – مؤسسات – عدالة – قصاص ... وغيره وغيره وغيره. صحيح حادث الانتحار الأخير والتي تعرضت له ونفذته الناشطة زينب مهدي كان الدافع لكتابة هذه السطور، وربما هناك أعداد لا تحصى من الشباب يفكرون في نفس الفعل هرباً من جحيم الظلم والفقر والفساد، فلم يتبقى لنا وطن بعدما سلبه – الكبار – كل ما فيه، ولم يعش لنا حلماً بعدما انقلبت أنظمة ما بعد الثورة عليه، ولم تجد أفكارنا أرض خصبة بين البسطاء في حرب شرسة منهم .. وفي النهاية مصر رجعت تاني ليهم. الثورة انتحرت بعدما فشلت كل المحاولات لرفع الأستبداد، وانتحر معها جيلي البائس بعدما شعر بأن حياته بلا ثمن، فقد أستطاع المنتفعين تشويه كل شئ من أجل مصالحهم مع معالي السلطان . المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية