(أثناء المعركة وتحت راية المقاومة يمكنك أن تخون أي شيء وكل شيء .. شعبك .. قضيتك .. وحتى المقاومة نفسها ، ولا يجرؤ أحد على اتهامك بالخيانة) كأن دم الفلسطينيين ، وخصوصا أهل عزة ، في عين الجميع ماء يسيل لكي يسيل ، والأغرب حين ينادي هذا الطرف القريب أو ذاك الغريب بوقف سيلانه يضع أهل الدم أنفسهم شروطهم على ذلك ، ويظل الدم الفلسطيني يسيل لكي يسيل . وليت هذه الشروط تخص القضية في كليتها وشمولها ، وحق وفرة الدم المسفوك أن تكون الشروط كذلك ، ولكنها شروط فصائلية خاصة وحمساوية تحديدا ، أكثر من كونها فلسطينية عامة ، وإن بعضها ليقع ضد كل ما هو وطني فلسطيني وقومي عربي معا . الحقيقة أنه بوجود حماس لم تعد فلسطين قضية ، بل صارت فضاء من الدم يحيا فيه الشهداء المحتملون حتى يوم استشهادهم بلا ثمن وطني يعزيه في ملكوت الله الأبقى ، فلا يبكون على دمهم مرة وعلى وطنهم مرات حتى وهم "أحياء عند ربهم يرزقون" .. وتعلمنا حماس ما لم نكن نعلم من الحكمة اللعينة ، ولعل أهم ما تعلمناه أنه أثناء المعركة وتحت راية المقاومة يمكنك أن تخون أي شيء وكل شيء .. شعبك .. قضيتك .. وحتى المقاومة نفسها ، ولا يجرؤ أحد على اتهامك بالخيانة . ويتورط الوطنيون المخلصون في تلك الحكمة ، فيرون الخيانة كما يرون دمار قصفهم ، ولكنهم يخرسون عقولهم قبل ألسنتهم ، فالساعة ساعة المعركة وليس الحساب . ويسهم الوطنيون المخلصون بلا وعي منهم في كل الخسائر المحققة التي تنتجها دائما كل خيانة . يشتبه على الوطنيين الموقف ، وهم يرون عدوهم في مواجهة الخونة ، فيندرحون في مقاومة عدوهم ، غير واعين بما وراء هذه المواجهة الشكلية برغم كل ضحاياها من خيانة للوطن وقضيته .. نعم ، هي الخيانة أتتها حماس وتأتيها كل مرة عن وعي وقصد وتعمد منذ انقلابها على السلطة الفلسطينية في 2006 وما فعلته من مذابح بأحرار فتح أيامها . ترى حماس حصار غزة ، ولا تأبه بحصار الصهاينة للسلطة في الضفة الغربية . وترى المساحة من البحر المسموح للصيادين الفلسطينيين بالصيد فيها ، ولا ترى الجدار العازل يخنق كل الفلسطينيين في الضفة . وترى الأسرى الذين عاود الصهاينة أسرهم ، ولا ترى إلى آلاف الأسرى الآخرين رجالا ونساء وأطفالا . وترى أهدافها في غزة ، ولا ترى القضية في شمولها وكليتها . وترى نفسها ولا ترى مطلقا منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والسلطة المنبثقة منها . وها هي ترى شروطها لإيقاف آلة القتل الصهيونية ، ولا ترى دماء شعبها تسيل دون مواقيت معلومة لإيقافه . وحين حددت حماس شروطها لإيقاف نزيف الدم لم نكد نرى لفلسطين وقضيتها أثرا من الشرط الأول إلى العاشر ، فأية خيانة بعد !! ولست ممن يتمتعون بحساسية الآخرين ، وبخاصة من الفلسطينيين ، لكي أمتنع عن تسمية الخيانة باسمها وإن أثناء المعركة ، فلسنا إزاء معركة بحق ، إنها مذبحة لأهل غزة استدعتها حماس إلى القطاع لأهداف لها تلتقي مع أهداف الكيان الصهيوني ، في الإجهاز على السلطة الفلسطينية تماما . لقد كان يمكن للدم المدفوع في غزة وما يزال ، ولاستمرار العدوان الصهيوني عليها ، أن يكون مبررا قويا لرفض أية تسويات في غزة واستدعاء العالم كل العالم إلى طاولة مفاوضات التسوية النهائية ، وفتح ملفات القضية الفلسطينية كلها : 1- الأسرى. 2- الاستيطان. 3- الجدار العازل. 4- القدسالشرقية. 5- الحفريات الصهيونية تحت الأقصى الشريف. 6- الاتصال الجغرافي بين غزة والضفة. 7- اللاجئين في الداخل والخارج. 8- الدولة الفلسطينية ومقوماتها. إن ملفا واحدا من الملفات السابقة لم تطرحه حماس ولم يكن ينبغي لها أن تطرحه ، فالشروط الصهيونية التي صنعتها حددت جغرافيتها بدقة ، إنها القطاع وليس أبعد من القطاع سنتييمترا واحدا . وكانت هذه تحديدا جغرافيا شروط حماس للقبول بإيقاف إطلاق النار . لم يخجل مندوب حماس في مفاوضات القاهرة أن بقول أن أهل غزة يريدون ماء نقيا للشرب ودواء وغذاء .. يريدون كسر الحصار على القطاع .. يريدون كل شيء مما ليس له علاقة بوقف العدوان ليقبلوا بوقفه ، وكأن القضية تم اختزالها في القطاع واحتياجات القطاع . ويغضب البعض أن نقول أن حماس استدعت العدوان على غزة ، ويغضب أن نقول أنها تبتز بدماء أهل غزة المجتمع الدولي والمنطقة العربية ومصر ليس لاحتياجات أهل غزة الإنسانية كما تعلن ، بل لاستدامة سيطرتها على القطاع واستمرار هيمنتها على الفصائل المقاومة ، وبالتالي تكريس انفصال القطاع بسلطته عن الضفة بسلطتها . ويغضب أن نقول أن الأمر ليس مقاومة للعدوان الصهيوني ، بل هو إسقاط للسلطة الفلسطينية باستدعاء العدوان وافتعال مقاومته . القضية الفلسطينية اليوم إزاء منعطف تاريخي حقيقي ، والخيار بوضوح واختصار وبلا أدنى مواربة : إما حماس أو فلسطين ، يقول تاريخ حماس هذا ، وتقول الأحداث الآن القول نفسه . ليست هذه دعوة لتدمير حماس كما يذهب إلى ذلك بعض المشبوهين ، بل إلى أن تعود إلى حجمها الحقيقي مجرد فصيل مقاوم مثلها مثل أي فصيل ، وأن تعود السلطة لممارسة مهماتها في غزة ، وتنظم عمل الفصائل ضمن رؤيتها السياسية ‘لى حين فتح ملف التسوية النهائية . الفلسطينيون مدعوون الآن ، وربما للمرة الأولى في تاريخ قضيتها ، إلى تعديل موازين القوى التي همشت السلطة الفلسطينية تماما ، لتحل محلها الفصائل ، وخصوصا الفصائل ذات الانتماء المزدوج ، وقد استمر هذا الوضع سنوات ، منذ 2006 ، وآن لهذا الوضع الغريب والمريب أن ينتهي تماما . من أجل القضية في كليتها وشمولها لا من أجل أزمة طارئة اصطنعتها حماس نفسها من أجل أهداف حماس فقط . ليس العدوان الصهيوني على غزة أكثر من عرض من أعراض القضية ، والمرض المسئول عنه وعن أية أعراض أخرى هو الاحتلال ، والتصدي للاحتلال يكون عبر الجهة المعترف بها دوليا وليس الجهة المحكوم عليها عالميا بأنها فصيل إرهابي . فهل أحد من الفلسطينيين سأل نفسه : هل يعقل أن تكون السلطة في جانب والسلاح في جانب ؟ .. ما هي قوة السلطة بلا سلاح أو جدوى السلاح بلا سلطة معترف بها ؟ .. هل يمكن أن تبقى القضية بفصائل لا غطاء سياسيا لها ؟ .. هذه اسئلة أصبحت إجابتها حتمية الآن في فضاء اية تسوية قادمة للعدوان على غزة ، وإذا كانت هناك أطراف عربية وإسلامية وصديقة كما تدعي حماس ، فلتجلس لتسوية أوضاع الطرف الفلسطيني نفسه بما يخدم القضية ، وإلا فلا أمل ، إلا تحقيق أحلام الصهاينة في استمرار الوجود العبثي للفصائل والوجود غير المجدي للسلطة ، ومن ثم استمرار كل المآسي من احتلال إلى استيطان إلى تهويد القدسالشرقية إلى الحفريات تحت القدس الشريف .. إلى آخره . ساعة الدم هي أفضل ساعات المراجعة والنقد الذاتي ، ولكن من ذا يستثمرها خارج النظرة الفصائلية الضيقة . نعم ، الأمر ليس سهلا ، ولكنه حتمي ، فإما هذا أو لا فلسطين لعشرات السنين . فسوف يتم إسقاط السلطة الفلسطينية ، ولا يعترف أحد في العالم بالفصائل إياها ، والتي أجزم أنها لن تبقى بعد السلطة الفلسطينية طويلا . وسيكون علينا وقتها أن ننتظر طويلا وطويلا جدا لكي تتوفر ظروف دولية تسمح بما سمحت به في الستينيات من القرن الفائت .