الصوت الوحيد المسموع في هذه الأيام، بمناسبة الثورات العربية المتلاحقة، هو صوت الشارع العربي، في معظم أنحاء العالم العربي. فهل يمكن لهذا الشارع قبل 2010-2011، أن يؤثر في مجريات الأمور السياسية في العالم العربي، وهل يمكن أن يأتي بنتائج إيجابية، كما يفعل اليوم؟ فالشارع في العالم، لم يعد كما كان في السابق، عبارة عن ممر للمشاة والراكبين، كما لم يعد مجرد مكان للتسكع، وانتشار المقاهي على جانبيه، لعلك الكلام، وهشّ الذباب، وبثِّ الهيام. كما لم يعد مكاناً لرمي الزبالة، والتبوّل. لقد أصبح الشارع في العالم المتحضر والديمقراطي والواعي، برلمان الأمة الحقيقي بعيداً عن لأصحاب الياقات المنشّاة، وبعيداً عن خطب السياسيين المحترفين. أصبح الشارع فضاء الرأي الفطري، رغم هيمنة الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على جانب منه. بل أصبح الشارع يطيح بأنظمة سياسية عريقة وعتيقة، ويهدد أخرى بالسقوط. والشارع العربي، أصبح فضاءً سياسياً غير مؤطر، وغير منظَّم للحرية (حيث لا فضاء غيره في دنيا العرب الحالية. ففيه يمكنك أن تقول ما لا يُقال، وتعبّر عمّا لا يُعبّر عنه في أي مجال، أو وسيلة أخرى (ميدان التحرير المصري وساحة التغيير اليمنية المثال الحي الآن). وخروج المواطن إلى الشارع، لا يكون إلا لرمي آخر سهم في جعبته، وإطلاق الرصاصة الأخيرة والصرخة الأخيرة، وهو أضعف الإيمان. فالشارع هو آخر المطاف للمقهورين، وهو حبل النجاة للمعارضة المقموعة. وفي الشارع – كما تقول نازك الأعرج – “تتعلم الجموع ألف باء وعي الذات الجمعية، ويدركوا روح التضامن، ويتوصلوا إلى الانتماء الكلي الإنساني. ويعتبر الشارع، في بعض الأوقات، وفي بعض البلدان العربية التي فيها وعي سياسي كبير ونسبة أميّة قليلة، برلمان العرب الحقيقي، بعيداً عن الزيف، والكذب، والخداع، والمراوغة. -2- كلما كان الشارع واعياً ومثقفاً ثقافة سياسية عميقة، وثقافة عامة راقية، أصبح مؤثراً وفعالاً. وبدون ذلك، لا يُتوقع للشارع العربي أن تزداد فعاليته، وأن يؤثر على السياسات الخارجية والداخلية في العالم العربي، في ظل ضعف الأنظمة العربية سياسياً واقتصادياً. وأن قول البعض من أن الشارع العربي الآن كسلاح، يوازي أهمية البترول، قول مجاني لا يرقى إلى الحقائق الموضوعية بصلة، فيما لو علمنا أثر الأمراض المتفشية الكثيرة في المجتمع العربي، والتي تنعكس على الحالة الصحية والمدنية للرأي العام العربي (وهو الشارع) الذي كان مُعتلاً، فعادت إليه صحته، وعاد إليه نشاطه كما نرى الآن. -3- لقد أصبح الشارع العربي الآن ممثلاً بالطلبة، والعاطلين على العمل، والفقراء بمثابة الرأي العام العربي، الذي كان نادراً ما يضع النقاط على الحروف، ويقول كلمته فيما يجري، في ظل غياب الحرية والديمقراطية في العالم العربي، وفي ظل اضطهاد الرأي الآخر، وفي ظل عدم إمكانية إجراء استطلاعات للرأي العام، دالة وصحيحة، يمكن بناء القرارات على أساسها، نتيجة للخوف من السلطة في قول الحقيقة، ونتيجة لعدم وجود الثقافة الكافية للمستطلَعين المستهدفين، ومعرفتهم الموضوعية، لما يدور حولهم من مشاكل وقضايا. ولكن الشارع العربي في نهاية 2010 وبداية 2011، غيّر هذه السيكيولوجية المريضة، واستبدلها بسكيولوجية جديدة، استطاعت أن تطيح بأعتى الدكتاتوريات القروسطية العربية. لقد قلب الشارع العربي كل الموازين، وقفز على كل السدود والموانع، بفضل انجازات القرن الحادي والعشرين في تدفق المعلومات، ووسائل الاتصال الإلكتروني، التي ألغت الرقابة، ووفرت الاتصال السريع، والمضمون. -4- ليس هناك شارع عربي واحد موحد، وإنما هناك عدة شوارع عربية إقليمية، تجتمع على العموميات، وتختلف على الجزئيات والتفاصيل، كما رأينا خلال عامي 2011، و2012. وهذا هو المهم، فالشيطان يقبع دائماً في التفاصيل كما يقولون. وهذه الشوارع مثلاً، ومن أرض الواقع الآن، تتفق على تحرير الثورة، ولكنها تختلف على كيفية الثورة ومطالبها. وتجتمع على ضرورة الحفاظ على الهوية العربية، ولكنها تختلف على أية هوية يجب أن نحافظ: الهوية القومية، أم الهوية الدينية. وكان موقف الشوارع العربية المختلفة من عملية السلام بين بعض العرب وإسرائيل، مختلفاً، ومتبايناً. ويعتقد بعض الباحثين المتفائلين، أن هذا الانقسام في الشارع العربي، علامة صحة، ودليل وعي سياسي. صحيفة الجديدة العراقية