لم أجد الطريق إلى البيت. وتذكرت ما كتبته هنا مرارًا أيام مبارك عن مأساة المرور في شوارع القاهرة المسدودة بوصفها التمثيل العملي لانسداد الطريق إلى المستقبل. أعرف البيت جيدًا وأعود إليه مرارًا، على الرغم من صعوبة ذلك دائمًا، ولم يكن ما أعاقني في ذلك اليوم موكب أحد أعضاء العائلة والمافيا المباركية، بل حازم صلاح أبو إسماعيل المرشح السلفي الذي ذهب إلى لجنة الانتخابات ليس بالتوكيلات كما فعل كل المرشحين الآخرين بل بالموكلين أنفسهم يحرسون صناديق توكيلاتهم لمرشحهم المحبوب! غاب مبارك، ولم تغب فوضى المرور التي حولت المواطن المصري إلى رهينة في شوارع مغلقة على الدوام تتفاقم سدتها مع أية حركة غير طبيعية. لم يتغير شيء في مصر حتى على صعيد البحث عن حل للمشكلة المرورية المزمنة التي تتخطى كل الخسائر الاقتصادية إلى المساس بكرامة الإنسان المصري الذي يفكر ألف مرة قبل أن يغادر بيته، كل ما هنالك أن مواكب الأب والأم والابن الكبيرة تفرعت إلى مواكب صغيرة للحكام الجدد ولحلفائهم في مؤامرة قطع الطريق نحو المستقبل. المرشح المحبوب لم يحتل الشوارع فقط، لكن منشورات دعايته غطت جدران البيوت ومداخل المترو وأسوار الجسور، كما حملها الغواصون السلفيون تحت ماء البحر الأحمر لإقناع أسماك القرش والسياح الذين يستمتعون بالغطس في الكبائن الزجاجية بضرورة انتخاب حازم صلاح أبو إسماعيل. احتل المرشح السلفي البر والبحر، ولم يعد بوسع العسكر صرف العفريت الذين استحضروه. كانت هدية العسكر للثورة رفع الحظر عن الجماعات الإسلامية التي لا تؤمن بالمشاركة السياسية بل بالمغالبة لجعل كلمة الله (كما يفهمونها) هي العليا. لم يبخلوا على جماعات المغالبة، سواء تلك التي تتمتع بفضيلة الوضوح القارح أو تلك الخبيرة باللعب والالتفاف كجماعة الإخوان. ولم يركن العسكر إلى الحلفاء، بل بدأوا يدفعون إلى السيرك السياسي بسحرتهم الأقربين. ولم يصمد السحرة الفلول أمام عصا أبو إسماعيل الذي بات اقترابه من القصر وشيكًا؛ فأخرجوا له في الوقت المناسب وثائق حصول أمه على وثيقة سفر أمريكية، بما يخالف أحد شروط الترشح، وبالتزامن مع هذا دفعت جماعة الإخوان بمرشحها بعد أن تعهدت من قبل بعدم المنافسة على المنصب، ولم تنته المعركة بعد وإن بدأت التسريبات عن مفاوضات بين الجماعة والمرشح السلفي لتوفير خروج آمن له، كأن يقال إنه سيخرج لضمان عدم تفتيت الصوت الإسلامي. جدلية الدخول الخطر ومحاولات الخروج الآمن هي المحرك لكل الأحداث السياسية في مصر منذ التنحية الشكلية لحسني مبارك في 11 شباط (فبراير) 2011. ساهم العسكر بموقفهم من خلع مبارك في حسم الثورة المصرية بزمن وخسائر بشرية أقل من غيرها، لكن هذا الدخول لتأمين حذف مبارك لم يكن لصالح المستقبل بقدر ما كان دخولاً خطرًا هدفه ابتلاع الثورة وإعادة التوريث داخل 'عائلة القوات المسلحة' بدلاً من عائلة مبارك. وعندما اتضحت صعوبة تحقيق الهدف بدأت جهود الزج بالقوى الدينية لتأزيم الأمور بحيث يصبح وجود الجيش في الحياة السياسية ضرورة. وعبر مسيرة عام ونصف نجح العسكر في زيادة وعي المصريين بضرورة انصرافهم إلى ثكناتهم بدلاً من ترسيخ الإيمان بأفضالهم. خطأ وراء آخر بدأ الحديث عن الخروج الآمن لأفراد المجلس العسكري بوصفهم أركان نظام مبارك وبما اقترفت أيديهم بحق الثوار خلال إدارتهم المرحلة الانتقالية. ومع اقتراب الموعد المضروب لتسليم السلطة بدأ اللعب يتزايد، ولم يعد بوسع الشيطان أن يفهم ما يجري على الساحة السياسية المصرية. حازم صلاح أبو إسماعيل ينطلق كالصاروخ، ثم تنكسر رجله في القفزة قبل الأخيرة بإخراج وثائق حصول أمه على الجنسية الأمريكية قبل موتها. والإخوان الذين تحالفوا مع العسكر ضد الليبراليين واليساريين أعلنوا الحرب ضد الحليف من خلال أزمة سحب الثقة من الجنزوري. ولم يعرف الشيطان إن كانت الأزمة معركة حقيقية أم مهارشة محبين لرد عين الحاسد، لكنها كانت بداية طريق الجماعة القويم نحو المغالبة؛ فبعد السيطرة على البرلمان كان السعي لتشكيل الحكومة ثم السيطرة على لجنة إعداد الدستور ثم كانت وقعة الشاطر بترشيح خيرت الشاطر مهندس الجماعة للرئاسة! وبسؤال الشيطان، قال إنه لم يعد يفهم شيئًا ولا يستطيع التأكيد إن كان القرار نابعًا من داخل الجماعة برغبة ذاتية في المغالبة لابتلاع البلاد أم محاولة لحماية المشروع الإسلامي التدريجي المهدد براديكالية أبو إسماعيل أم بوحي من العسكر الذين رأوا ضرب المؤمنين بالمؤمنين لتحقيق مغالبتهم التي عملوا من أجلها منذ ضللوا الثوار بتأدية التحية العسكرية لشهداء الثورة. كما لم يتمكن الشيطان من معرفة حدود اللعبة الخطرة وإن كانت تدار من القاهرة أو واشنطن أم عبر شبكة من العواصم. الشيء الوحيد الذي بات واضحًا الآن أن فرق المغالبة تراهن على البقاء واللعب المنفرد، بينما يسرب كل منهم الحديث عن خروج آمن للخصم من باب تحطيم أعصابه. ولم يدركوا حقيقة بسيطة وهي حقيقة تغير الزمن.