أوردت قصاصة صحافية نشرت مؤخرا في بلادنا تصريحا لطبيب مصري جرّاح يقول إن المشاعر النفسية السلبية، مثل الحقد والضغينة والغضب والاكتئاب والتخطيط للانتقام وما إلى ذلك، تلعب دورا كبيرا في إضعاف جهاز المناعة لدى الإنسان، وبالتالي تعطي الفرصة لكثير من الأمراض القاتلة كي تكتسح جسمه وتقضي عليه في رمشة عين. وينبغي الاعتراف بأن هذا التصريح هام جدا من الناحية العلاجية، لأنه يصحح خطأ شائعا لدى كثير من الناس يجعلهم يعتقدون بأن العوامل المادية والجسمية هي وحدها التي تؤدي إلى إضعاف جهاز المناعة ونشر الأمراض بين بني البشر؛ مما يلزم عنه ضرورة البحث عن العلاج، من الآن فصاعدا، لا في الأدوية (الصيدلية أو الشعبية) وإنما في العمل على تعويض الحقد بالمحبة والغضب بالفرح والاكتئاب بالسعادة، وهلم جرّا... بطبيعة الحال، سوف يبادر بعض المشككين إلى التساؤل حول الأسباب التي أدت إلى تعميم التصريح المذكور في تزامن مع الإعلان عن نظام التغطية الصحية الجديد، وعما إذا كان ذلك يشير إلى إمكانية تخلي الحكومة عن التزاماتها في الموضوع؛ لكن هذا لا ينبغي أن يشغلنا أو يبعث التشاؤم واليأس في نفوسنا بحكم أن التشكيك هو بدوره من المشاعر السلبية التي ينبغي للبشرية أن تتخلص منها كي تواصل سيرها بعزم وثبات نحو المستقبل. والواقع أنه إذا تأملنا في الأمر قليلا فربما تبيّن لنا أن تصريح الجرّاح المصري ليس جديدا كل الجدّة، حيث انتبه قدماء العرب إلى تأثير تلك المشاعر السلبية على جسوم أصحابها، وكيف يمكن للحقد، مثلا، أن يأكل صاحبه من الداخل إلى أن يفنيه (مما يلزم عنه ضرورة ربط نعت مثل «الحاقد» بكلمة «الله يحفظ»). كما أنه ليس من قبيل العبث عندنا أن الناس يطلقون على المرأة الطويلة النحيفة التي تكره الآخرين نعت «المسمومة»، في إشارة إلى أن «السمّ» (وهو سم معنوي، طبعا) يأكلها من الداخل ويجعلها وكأنها تغلي، بالنسبة إلى الناظر إليها من الخارج. غير أن السؤال الملحّ الذي يطرح نفسه علينا، والحالة هذه، هو: كيف نستطيع التخلص، في الظروف التي نعيشها، من المشاعر السلبية؟ كيف يمكننا أن نزيل حالة الاكتئاب وانفعال الغضب، مثلا، من حياتنا؟ هل يكفي أن نستيقظ ذات يوم من نومنا ونقول: اليوم.. لن نغضب ولن نكتئب.. لكي نتخلّص من هذا النوع من المشاعر؟ ومن يضمن لي، أنا المواطن المسالم حيادي الانفعالات، ألا أستشيط غضبا حين أجد نفسي سجينا لاختناق مروري ناجم عن أشغال «الترامواي» أو حين يعترض مراهق طريقي وهو يحمل سيفا من سيوف الجاهلية لكي يسرقني في عز النهار؟ لذلك يمكن القول إن الدعوة التي يوجهها الجرّاح المصري إلينا لكي نبتعد عن المرض شبيهة، في النهاية، بالجملة الشهيرة لدى معلمي السياقة والتي يقول مدخلها، جوابا عن سؤال يتعلق بكيفية التعامل مع حالة معينة طارئة أثناء السياقة، «ما نخاف ما ندهش»، كأن «الخوف» و«الدهشة» أمران إراديان، نملك أن نطلقهما أو نوقفهما متى نشاء. وقد فهم ذلك بشكل عملي آلاف السائقين الذين «تقطع ليهم لفران» ذات يوم، فعرفوا حالات تتجاوز الخوف والدهشة بكثير، جعلتهم ينسون كل ما تعلموه من مدونة السير القديمة والجديدة بل وينسون حتى أسماءهم ويفقدون ذاكراتهم، تماما كما نشاهد في الأفلام المصرية القديمة المصورة بالأبيض والأسود. الخلاصة، إذن، أن حديث الجرّاح المصري ليس بريئا بالمرة، وإنما هو يندرج ضمن توجيه «إيديولوجي» يرمي إلى تخليص الشباب، في مصر بالخصوص، من حقدهم وغضبهم الموجهين ضد حكومة بلدهم ومن رغبتهم في الانتقام منها، وكذا إحساسهم بالإحباط والاكتئاب. فمرحبا ب«الإيديولوجيا» التي كنا نعتقد أنها ماتت وانقرضت، فإذا بها مازالت كامنة تحت الرماد. صحيفة المساء المغربية