ربما من سوء حظ حسنى مبارك أنه أفلت من محكمة نجيب محفوظ، التى عقدها فى كتابه "أمام العرش"، وحاكم فيها كل الملوك والزعماء المصريين على أسس الوطنية وحفاظهم على وحدة مصر، وقدر إسهامهم فى حضارتها الكبيرة.. تأخر كثيرا حسنى مبارك ولم يستجب لشعبه وسار فى مشروع التوريث، ليبتعد عن المحكمة المحفوظية، ليحاكم أمام محكمة الثورة، ليكون بذلك أول حاكم مصرى فى التاريخ يقف أمام عدالة محكمة فى حياته.. لم يكن من المتصور ولا من الدائر فى خيال أى كاتب مصرى أن يقف حاكم وهو حى مهما كان أمام محكمة، لذلك ندرت إن لم تكن انعدمت الروايات التى يحاكم فيها حكام أية دولة عربية، ولا حتى الكاتب النوبلى العظيم نجيب محفوظ الذى حاكم كل حكام مصر وقوداها وزعمائها فى روايته التى انتهت عند محاكمة الرئيس السادات، واكتفت بتوجيه العديد من النصائح والأولويات التى ينبغى على حاكم مصر أن يقوم بها، ولكن لأن الرئيس السابق لم يكن يحب القراءة، ويكتفى كما كان يقول فى أحاديثه، بقراءة الجرائد القومية وربما ملخصاتها، لم يقرأ ولم يستمع لنصائح محفوظ، رغم أنه الذى هو الذى قلده بقلادة النيل. أجواء محاكمة مبارك الذى حوكم هو وفريقه وجهازه الأمنى وابناه أمام محكمة رأس هيئتها المستشار أحمد رفعت، فى قاعة المحاضرات بأكاديمية الشرطة، وحضرها على سرير متنقل، اختلفت كليا عن محكمة نجيب محفوظ، حيث تكونت هيئة المحكمة من الإله أوزريس فى الصدر على عرشه الذهبى، إلى يمينه إيزيس على عرشها، إلى يساره حورس، وعلى مبعدة يسيرة من قدميه تربع تحوت كاتب الآلهة مسندا إلى ساقيه المشتبكتين الكتاب الجامع. و"انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة فى قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية، وسقفها المذهب تسبح فى سمائه أحلام البشر، وعلى جانبى القاعة صفت الكراسى المكسوة بقشرة من الذهب الخالص تنتظر من سيكتب لهم الخلاص من القادمين"، على حد وصف محفوظ. بدأت المحكمة بالملك مينا موحد القطرين ليقف أمام المحكمة التى لا تؤدى إلى 3 دروب، إما درب الخالدين والذى يسير فيه ملوك مصر العظام الذين ساهموا فى بناء حضارتها وحافظوا عليها، وإما على الجحيم للحكام الخائنين الذين شهدا عصورهم فترات مظلمة وتهددت وحدة المصريين وساءت أحوالهم وتأخرت مصر حضريا وتعرضت للغزو الخارجى وهم أيضا الحكام الذين لم يغلبوا مصلحة مصر على مصلحتهم الشخصية، وإما إلى مقام التافهين وهم الملوك الذين لم تشهد البلاد فى عصرهم أشياء مؤثرة ولا أمجاد، فأغلبهم ضعفاء. مقام الخالدين انتهى إليه أغلب حكام مصر وهم: مينا موحد القطرين وزوسر ووزيره أمنحتب وخوفو وبتاحتب، أمنحتب الأول والثانى والثالث والملك سيكننرع وأحمس والملك أمنحتب الأول وتحتمس الأول وتحتمس الثانى والملكة حتشبثوت وتحتمس الثالث وأمنحتب الثانى وتحتمس الرابع وأمنحتب الثالث والملكة تيى وأخناتون ونفرتيتى وحورمحب ورمسيس الأول وسيتى الأول ورمسيس الثانى وستنخت ورمسيس الثالث وبسلماتيك الأول والثانى. ومن أهم الملوك الذين حكمت المحكمة بإدخالهم نعيم الخالدين هم ثوار فترة الظلام الممتدة من سقوط الدولة القديمة لقيام الدولة الوسطى، وهم الذين قادوا الجماهير فى أول ثورة مصرية، ثم حكموا البلاد، وقادهم أبنوم، والذى يقول فى شهادته المحفوظية: "تجاهل التاريخ أسماءنا وأفعالنا، فهو تاريخ يدونه الخاصة، ونحن من عامة الفلاحين والصناع والصياديين، ومن عدالة هذه القاعة المقدسة أنها لا تغفل من الخلق أحداً، وقد تحملنا من الآلام فوق ما يتحمل البشر، ولما صببنا غضبنا الكاسر على عفن الظلم والظلمة نعتوا ثورتنا بالفوضى، ونعتونا باللصوص، وما كانت إلا ثورة على الطغيان باركتها الآلهة".. (ما أشبه هذه الشهادة بشهادة الثوار المصريين فى الثورة المصرية الذين نعتوا بتهم البلطجة وتهم الخيانة والفوضى وغيرها). أما الملوك الذين قضت محكمة العدل بإدخالهم الجحيم فهم سبكمساف ونفر حوتب وحاتحور ونفر خارع وأنتف تبمايوس.. وجاء فى حيثيات الحكم أنه لم يتواجد فى مصر كلها فى عصورهم رجل ينبض قلبه بالإخلاص.. ووجهت المحكمة الكلام إليهم "لقد ارتكبتم فى حق وطنكم جريمة لا تغتفر، ولم يكن الضعف ذنبكم الوحيد، ولكن خلت قلوبكم من النبل والنوايا الطيبة، فاذهبوا إلى الباب الغربى المفضى إلى الجحيم". كذلك قضت المحكمة بدخول الملك "بسوبا نبدد" الذى انقسمت البلاد فى عصره إلى الجحيم أيضا. الفئة الثالثة هم فئة التافهين، وهم الذين لا يمكن أن يدخلوا فى زمرة الخالدين، وهم أيضا الذين طلب لهم المدعون من حكام مصر السابقين المغفرة والعفو، وهم الملوك الذين لم تشهد البلاد فى عصرهم أشياء مؤثرة ولا أمجاد، فأغلبهم ضعفاء، وهم: الملك أمنمسس والملك سبتاح والملك سيتى وساكرع وتوت عنج آمون والملك آى ورمسيس الرابع والخامس والسادس والسابع إلى ال12 ونتخاو، وأبريس أمازنيس الذى حكمت المحكمة عليه أن يقضى ألف سنة مع التافهين ثم ينتقل إلى الجنة. انتقلت المحكمة بعد محاكمة الملوك الفراعنة إلى ملوك مصر الحديثة، حيث إنها محكمة مصرية لا تقبل أن يحاكم أمامها أجانب، وإن استمعت لبعضهم منهم محمد على وعلى بك الكبير، وانتقلت بعد ذلك لتستمع لشهادة زعماء مصر مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومصطفى النحاس، وغيرهم من المصريين. عادت المحكمة مرة أخرى لمحاكمة الرؤساء، حيث بدأت بمحاكمة الزعيم جمال عبد الناصر، والتى شهدت محاكمته نقاشا مهما عن الديمقراطية دار بينه وبين قطبى "الوفد" الزعيم سعد زغلول والنحاس، حيث عاتب "زغلول"، جمال، قائلا: "كان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدة الثورة، وأن تقيم حكما ديمقراطيا رشيدا، ولكن اندفاعك المضلل فى الطريق الاستبدادى هو المسئول عما حل بحكمك من سلبيات، ليرد جمال "كان يلزمنا فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية"، ليرد النحاس: "حجة ديكتاتورية طالما سمعناها من أعداء الأمة"، ليرد جمال "الديمقراطية الحقيقية كانت تعنى تحرير المصرى من الاستعمار والاستغلال والفقر"، لتشيد هيئة المحكمة بجمال "قليلون من قدموا لبلادهم ما قدمت من خدمات"، وتقضى بأنه مرحب به بين الخالدين من أبناء مصر،على أن يمضى بعد ذلك إلى محكمته الأخرى مؤيدا بتزكية مشرفة منا. يأتى الدور بعد ذلك على الرئيس السادات، والذى دخل فى مناقشة حامية مع جمال عبد الناصر حول صلحه مع إسرائيل وموقفه من قضايا العروبة، وسياسة الانفتاح والعدالة الاجتماعية، أنهاها أنور السادات بتبرير: "لقد عملت لخير مصر فوثب الانتهازيون من وراء ظهرى"، لتقضى المحكمة بأنه من الخالدين، لتنتهى بذلك حقبة الملوك والرؤساء الذين حكوموا فى رواية "أمام العرش" لمحفوظ، ولتبدأ حقبة الملوك الذين يحاكمون أمام محكمة الثورة، وفق المبادئ التى وضعها حكام مصر السابقون واجتمع عليها المصريون، واختتم بها الروائى العالمى نجيب محفوظ روايته المهمة، والتى للأسف لم يعيها الرئيس السابق حسنى مبارك لأنه لا يحب القراءة، والتى أوجزها محفوظ فى: أن تؤمن مصر بالعلم والحكمة والأدب، ووحدة الأرض والشعب، وأهمية العمل.. وأن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب من أجل الشعب، وأن تؤمن بالعدالة والحضارة والسلام.. وتستمع لنصيحة الحكيم أمنحب "ما أسرع أن يحل الفساد محل المجد، وأن ينعكس ضعف حاكم واحد على حضارة متكاملة".. ونصيحة تحتمس الثالث: "لعل المشكلة تتلخص فى كيف نعثر على الرجل القوى المناسب فى الوقت المناسب". ترى لو حوكم نجيب محفوظ، مبارك، أين كان سيضعه.