غداة اكتساحهم لصناديق الاقتراع في تونس والمغرب ومصر، أطلق رموز من الإخوان المسلمين تصريحات سعوا من خلالها إلى تطمين خصومهم السياسيين في الداخل والخارج على حد سواء: المحافظة على الاقتصاد الحر، الاتفاقيات الدولية (معاهدة كامب ديفيد)، احترام الحريات وعدم اللجوء إلى فرض الحجاب على النساء، بل وعدم تحريم الخمور. ورغم تصريحات مقلقة مثل بدء «الخلافة الراشدة السادسة» حسبما أعلن رئيس وزراء تونس الجديد حمادي الجبالي في نوفمبر الماضي، وتراجعه غداة توليه منصبه متعهداً بأن «تكون الحكومة في خدمة الشعب ومثالا لليد النظيفة والحوكمة الرشيدة والشفافية» معتبراً أن «رسالة الأمل هذه ليست من فراغ، لأن الشعب الذي نجح في القيام بالثورة قادر على رفع تحديات التنمية الاقتصادية»، فان الإشارات التي صدرت عن رموز الإخوان بقيت في خانة التطمين. ليس لدى الإسلاميين أي مشكلة مع الاقتصاد الحر وآلياته، على العكس فهم من أنصاره بل إن الإخوان المسلمين المصريين لديهم سابقة تظهر بجلاء أنهم لا يملكون أي حساسية للعدالة الاجتماعية، عندما ساندوا قرارات نزع ملكيات الفلاحين وإعادتها إلى أصحابها التي جرت في عهد الرئيس السابق حسني مبارك. الحريات الفردية؟ يدركون جيدا (الآن فحسب) أن القسر والإلزام لن ينفع، فاتخذوا مواقف تعيد تأكيد التزامهم الأخلاقي/الديني لكن دون الرغبة في فرضه عبر التأكيد على إنهم سيعتمدون على الإقناع لا القسر مثلما ذهب إليه رشاد البيومي نائب المرشد العام للإخوان المسلمين المصريين. لقد أكد البيومي أن «الحرية الشخصية للمواطنين مكفولة» وأن الجماعة «لا يمكنها التدخل في زي أي امرأة» و«إن الإخوان سيسعون من خلال الإقناع إلى الدعوة إلى قيم الدين الحنيف». (الوفد المصرية 10 ديسمبر). الأمر نفسه في تونس، سيحتاج قياديو حركة النهضة وإخوان مصر على حد سواء حتى إسلاميي العدل والإحسان في المغرب إلى مبررات استثنائية لفتح معارك الأخلاق قبل المبادرة بحل معضلات الاقتصاد والمعيشة والكرامة. ماذا تبقى إذا لكي يقدمه الإخوان المسلمون ليؤسسوا تجربة مغايرة في الحكم؟ ثمة تجربة استحوذت على الاهتمام وإعجاب الكثيرين: تجربة إسلاميي تركيا. لكن هل بإمكان الإخوان المسلمين المصريين والتونسيين والمغاربة تأسيس تجربة مماثلة في الحكم؟
ثمة شكوك كبيرة تحيط بقدرة الإخوان على تأسيس تجربة مماثلة لتجربة الإسلاميين الأتراك أولها أن الإسلاميين الأتراك جاؤوا من تجربة مغايرة. فقد اختبروا الحكم في ظل زعيمهم التاريخي نجم الدين أربكان الذي لم يفتأ أن اصطدم بالجيش التركي فأخرجه من الحكم. أضف أن رجب طيب أردوغان كان عمدة لمدينة إسطنبول ما بين 1994 و1998. وقتذاك، ورغم تفانيه في خدمة مدينته وتطويرها، كان شخصاً يزدري العلمانية، لكنه عاد في 2003 ليؤسس تجربته الجديدة بعد أن قطع ورفاقه في حزب العدالة والتنمية مع كل إرث زعيمهم التاريخي أربكان لا ليتصالح مع العلمانية فحسب، بل ليدافع عن العلمانية «على الشاشات المصرية والتونسية» مثلما كتب قدري غورسال في صحيفة «مليت» التركية. (الحياة، مترجما عن مليت 12 ديسمبر 2011). على الأرجح، سيواجه الإخوان المسلمون امتحانات ستضعهم دوماً بين خيار المرجعية الدينية لحركتهم وبين الضرورات السياسية للحكم. سيزيد في العبء أنها سابقة أولى للإسلاميين العرب في الحكم وليس أمامهم من مثال ناجح سوى تجربة إسلاميي العدالة والتنمية في تركيا. أولى علامات هذا الاختبار ربما بدأت مع مشاكسات السلفيين في مصر والمعارك الإعلامية التي بدأت حول النص على دين رئيس الدولة في الدستور. مشاكسات السلفيين المصريين للإخوان، ليست سوى عنوان بارز للصراع بين المرجعية الدينية والضرورات السياسية التي ستمتد إلى صفوف الإخوان أنفسهم. فالأجيال التي تربت على حلم المجتمع الفاضل، ستكون أمام امتحان عسير في أن تقبل بتسويات لم تكن متداولة في الأدبيات ولا في الخطاب قبل عام مضى بل قبل شهور خلت. والمشكلة هنا هي أن الإسلاميين العرب بكل تلاوينهم مازالوا غارقين في الأيديولوجيا أكثر من التجربة الإنسانية المفتوحة. سيزيد من الضغط عليهم أنهم يريدون حتماً (وهذا من حقهم) أن يجربوا حلولهم، لكن هذه الحلول ما تزال تصدر عن نفس الرؤى المثالية للمرجعية الأيديولوجية، فحتى الآن لم اسمع لا من الإخوان ولا من إسلاميي أي بلد عربي رؤية لتحقيق العدالة الاجتماعية تتجاوز «الزكاة». إشارات التطمين التي أرسلها الإخوان توضح أمرا واحدا: الأخلاق ليست أولويتهم بل الاقتصاد والعدالة الاجتماعية وإنهم باتوا أكثر مرونة في النظر والتعاطي مع كل ما يعدونه «رزايا» الحضارة الغربية. لكن هذا إما انه يعدنا بمفاجآت لديهم تخيب كل الظنون والشكوك حيالهم أو أنه يقترح علينا أن تسيير الاقتصاد والقضاء على الفقر سيتم بنفس الآليات والمقاربات التي كانت تجري من قبل. ربما ستتم محاربة الفساد بعزيمة واضحة لا لأنه يستجيب للمقاييس الأخلاقية فحسب بل لأنه ضرورة من ضرورات إعادة إطلاق عجلات الاقتصاد. لكن إذا كان الاقتصاد سيدار في أحسن الأحوال بنفس آليات السوق المفتوحة، وسيتم احترام الحريات وحقوق الإنسان، سيعود السؤال عما تبقى لكي يقدم الإخوان تجربة مغايرة في الحكم تدفع الناخبين للتصويت لهم من جديد؟ إذا لم يعمدوا إلى القسر واستخدام الغالبية البرلمانية لفرض رؤاهم الأخلاقية، فان معارك الأخلاق ستنتقل إلى الشوارع: مبادرات من أنصار متحمسين ستشعل جدالا داخل صفوفهم وسيكون مطلوبا منهم إما تأكيد احترامهم (المعلن) للحريات وإما السيطرة على أنصارهم وأنصار السلفيين. التكهنات كثيرة، لكن كل ما آمله هو أن لا تداعبهم أحلام مثل تلك التي عبر عنها وزير سوداني في الجلسة الأخيرة لمؤتمر مؤسسة الفكر العربي التي عقدت في دبي في 6 ديسمبر الماضي. فقد بشر الوزير الحاضرين بأنه وبعد وصول الإسلاميين للحكم في مصر وليبيا وتونس والمغرب بعد السودان، فان هذا سيقود إلى وحدة تقوم على «سوق إسلامية» و«عملة إسلامية موحدة». فهذا بالضبط ما أقدم عليه نجم الدين أربكان وكلفت حزبه الخروج من الحكم وانشقاق تلاميذه (أردوغان عبدالله غل أحمد داود أوغلو)، أركان التجربة التركية الناجحة. أما أنا فأضيف: إن كان هذا هو المسار الذي يتراقص في المخيلة، فهذا اختطاف لثورات الأجيال الشابة في تونس ومصر والمغرب وليبيا. ---------------------------------- عن صحيفة "البيان" الاماراتية