امتطى أبو جهل جواده، ونزل إلى الساحة، ثم صرخ: أفيقوا أيها المصريون، هناك مؤامرة عليكم، وهناك متآمرون يستأجرون بنات ليل، وبلطجية، ويضربون دف الخراب على أبواب مجلس الشعب ومؤسساتكم السيادية، ومنهم من يحمل رايات الفسق، فتمسكوا بوطنكم، ولا تسمحوا لهم بالبقاء، اقتلوهم وألقوا بجثثهم لكلاب الصحراء، ثم استمتعوا بالعواء.. **** كتب أبو جهل مقالًا للدفاع عن سياسات المجلس العسكري، فلما انتهى منه نظر إلى أوراقه وقلبها، ثم أعاد قراءة ما كتبه عشر مرات، أعجبته جدًا مقولات: المتآمرون على مصر، خطة تدمير مؤسسات الوطن، جيش مصر العظيم، وأعجبته أكثر حزمة الاتهامات التي وجهها لشباب الثوار، خصوصًا الفتيات؛ فقد قال فيهن ما يجعل المشير نفسه يصفق له، رغم أن قلمه لم يكن يطمع في أكثر من رضا المرشد. كتب أبو جهل أن الصيدلانية الشابة غادة - التي دهسها رجال الجيش، ومزقوا ثيابها - ليست ثورية، ودليله أنها ذهبت للاعتصام بقطعة ملابس واحدة، ولو كانت صادقة لارتدت عشرين طبقة من الملابس السميكة، أو لاستمعت لنصائح أمثاله بارتداء لباس بحر شرعي، تحسبًا للعوم المتوقع في بحور "جيش مصر العظيم". لم يرد أبو جهل أن يترك لغادة حتى حق الحسرة على ما تعرضت له، فدهسها بقلمه، وقدّمها قربانًا للذين فشلوا في تعليمه أن القلم رسول، والكلمة رسالة، استكثر عليها لحظات تضامن نبيلة من شعب طيب، فقطع عليها الطريق، وراح يطوف حول أصنامه، مرددًا مقولته القديمة في بطحاء مكة: تبًا لكم، أتريدون للعبيد أن يرفعوا قاماتهم في وجوه السادة!! هاجم أبو جهل في مقالته نفسها حركات وأسماء، واتهمهم بالمتاجرة في البشر وأحلامهم، ثم وضع نفسه في مقام الأوصياء، وراح يقدم تعليماته للجيش والشعب بأن: اسحلوا، و افرموا، و لا تأخذكم بهم شفقة، مدعيًا أن في ذلك حماية للديمقراطية الزاحفة، رغم أنه لو كان ديمقراطيًا بحق لخاطب من يعارضهم بالحسنى، ودعاهم - بغير ذم أو تشويه - لمراجعة الذات، بدلًا من جلدهم بكرابيج حبر تشبه وجهه تمامًا. **** قرر أبو جهل أن يقول كلمته عبر الشاشة؛ فاتصل برفاقه، وأعطاهم الأمر: ابدأوا... قال أحدهم - عبر برنامجه الرياضي - إن عينه تبكي، و قلبه يدمي، على المجمع العلمي الذي حرقه الرعاع، ثم أضاف: هل يمكن أن نطلق على المجرمين المخربين الذين أشعلوا النار في هذا الصرح العلمي " ثوار" ؟ فلما اتصل به مشاهد ليبلغه بجديد المعلومات في هذا الشأن، باغته غاضبًا: " اصمت يا رجل...كيف نصدق أن جنود جيشنا العظيم تورطوا في هذا العمل، هذه صور مفبركة، يستخدمها المتآمرون لتحقيق أهدافهم"، ثم أغلق الهاتف في وجه المتصل، ودعا مشاهديه لتأمل الصور التي تعرضها شاشته، وقد كتب عليها:" مأجورون يهاجمون الجيش"!! تذكر أبو جهل فجأة أنه كان عضوًا في الحزب الوطني المنحل، وأنه زوّر الانتخابات بنفسه قبل الثورة بنحو شهر، فضرب على وتر التسامح الشعبي، وقال : " أقر - أمامكم - بأني أخطأت، لكن ذلك لا يمنعني من الدفاع اليوم عن وطني في مواجهة هؤلاء المتآمرين، تعالوا نتوحد لنوقف المؤامرة، انفروا يا رجال إلى الاستاد؛ لنعلن للعالم أننا مع المجلس العسكري". لو دقّق أبوجهل لتذكر أن سيده "صفوت الشريف" دعا الحزب الوطني لذات الهبة عند غزو العراق، رغم أن المقاتلات الأمريكية كانت تمر من أرض مصر، بمباركة رئيسه المخلوع. **** ذاكرة أبو جهل ضعيفة؛ لكنه يتشبث بذكائه المحدود؛ فيجمع الصور والمقاطع التي تروق له، ويعرضها على الشاشة بطريقة مكثفة، ويفتح خطوط الاتصال أمام مواطنين يقول إنهم عاديون، ليعلقوا عليها بالطريقة التي ترضيه، فجأة يباغته أحدهم قائلًا: " لا تنس يا كابتن أننا نظمنا قبل 20 عامًا مائدة إفطار رمضاني بمشاركة السيدة الفاضلة زوجتك، وأنك كنت دائمًا صاحب أدوار وطنية مشهودة، خاصة أيام عضويتك في مجلس الشعب"، لا يجد أبو جهل ما يقوله غير مسح عرقه الذي تصبب في عز الشتاء، وتوجيه الشكر ل"الصديق المتصل"؛ قبل أن يلجأ لحيلة ثانية لا تقل خطورة... استدعى أبوجهل رفيقًا قديمًا عُرف في الوسط بُحسن الخلق والتدين، والأهم علاقته الوطيدة بالجماعات الإسلامية الصاعدة، أجلسه في الاستديو كتلميذ، ثم راح يسأله عن رأيه، ورؤيته، وموقف الإسلام من تلك الشرذمة التي تحمل الخراب لمصر، وكما توقع دخل النجم السابق إلى حلبة النزال بكل ما أوتي من قدرة، فسبّ، ولعن، ونصح، ووعد، ثم ابتسم، وقال: "هؤلاء كارهون للديمقراطية، وخارجون على القانون، وعلينا أن نشد على أيدي الجيش لينقذ مصر منهم، مهما كان الثمن"... نظر إلى أبي جهل؛ فلما شعر برضاه، اطمئن قلبه وانصرف. **** أبو جهل أراد أن يضحك مشاهديه على ثوار التحرير، لكنه ضل الطريق؛ فتحول إلى أضحوكة يتندر عليها عامة الناس، ويتبرأ منها من تصور أنه يخدمهم. جلس أبو جهل في حضرة اثنين من أصحاب اللحى، وراح يشكك في الثوار، ثم قدّم فاصلًا من "الردح النسائي"، وصف شخصًا بأنه يجاهد بالدولارات، وتوعده بعقاب من شعب مصر إذا عاد من أمريكا... نعت نائبًا شابًا بأنه ألماني، ثم سخر من سياسي بارز وخاطبه ب" يا واد يا مؤمن"... و أخيرًا شكّك في تدين منتقبة تعرضت للاعتداء أمام مجلس الوزراء، معتبرًا كل هؤلاء "نصابين"!! كان ضيفا لأبي جهل - وكلاهما يقدم نفسه كداعية - يقهقهان على تلك الألفاظ القميئة، ولو أنصفا لمنعاه من سب الناس علانية، ولذكراه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن سبّابًا ولا فحاشًا، بل كان يتحمل أذى قومه، و يرد على الإساءة بالدعاء لصاحبها بالهداية، ولو أنصفا لنصحاه: " قل خيرًا أو لتصمت، لكنهما لم يفعلا، فصار اللقاء وكأنه إعادة لحوارٍ جرى في بيت أبي لهب، وليس في قناة ترفع شعار أعظم الأديان!!