البيت الأول طعم الفراق وحدها المرأة تقوى على رؤية الزمن... تتابع دقات عقاربه عن كثب... تراقبه قسرًا.. وهو يضع علاماته على جسدها... ملامح وجهها... لون شعرها.... فراق من أحبتهم وأحبوها.... جلست في المقعد الخلفي للسيارة الأجرة ممسكة في يدها تليفونها المحمول.. تنظر إليه من حين لآخر تتأكد من وجود إرسال تارة... وتارة أخرى تتأكد من أن الصوت عال كفاية كي تسمعه إذا ما اتصل بها أحد... فاليوم عيد ميلادها وحتمًا سيتصل بها أبناؤها سيعيدون عليها وقد يباغتها أحدهم بإرسال هدية حتمًا ستدخل على قلبها السرور مهما كانت بسيطة أو قد يأتون إليها حاملين كعكة عيد ميلاد كبيرة فيغنون معها ويضحكون كما كانوا يفعلون في الماضي أعادت النظر للمرة العاشرة إلى هاتفها لا شيء... لا اتصال ولا حتى رسالة نقلت بصرها إلى النافذة تنظر للطريق المزدحم تراقب المارة الواجمة وجوههم تتساءل أين اختفت ابتسامة هؤلاء.. من سرقها منهم واستبدلها بكل هذا البؤس والشقاء؟ عادت إلى هاتفها تنظر إليه دون فائدة أمسكت العلبة الخشبية الموجودة إلى جوارها والتي أحضرها لها زملاؤها في العمل بمناسبة خروجها على المعاش... وضعتها فوق رجلها وفتحتها أخرجت منها المصحف الشريف قبلته وأعادته إلى مكانه داخل العلبة وأعادت العلبة إلى مكانها مرة أخرى نظرت إلى هاتفها... وبدأت تبدو عليها علامات القلق عل المانع خير إن شاء الله.. مؤكد شيء مهم أنساهم عيد ميلادي.. على الأقل كانوا سيتصلون لمواساتي للخروج على المعاش... سأتصل بهم بمجرد وصولي البيت لأطمئن عليهم أخرجت محفظة صغيرة من حقيبتها.. فتحتها فظهرت صورتا أبنائها... هند تخرجت فور تخرجها من كلية الهندسة وسافرت إلى السعودية مع زوجها... بدت هند صغيرة في الصورة فهى الآن وبعد ارتدائها النقاب لا تتصور غير في الضرورة... بعد أن أقنعها أحد المشايخ بفتواه عن حرمانية التصوير.... همست الأم لنفسها... قد تكون غاضبة مني منذ آخر مكالمة بيننا لقد كانت تلح علي لارتداء النقاب وأغضبها رفضي التام له وأغضبها أكثر قولي إنه ليس زيًا إسلاميًا وإنما هو زي بدوي يعبر عن ثقافة منطقة وليس ثقافة ديننا.... لكنها أيضًا غضبت من عملي وقالت إن ما أكسبه كله حرام... فلا أعرف من أقنعها بأن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تعمل وأن خروج المرأة من بيتها لا يكون إلا في الضروريات وأن عملي الذي يبيح الاختلاط بالرجال هو حرام... سأهاتفها على كل حال فهى رغم كل شيء ابنتي الصغيرة الجميلة نقلت نظرها للصورة الأخرى... مصطفى... النابغة الصغير... كما كانت تحب أن تناديه من باب التدليل والفخر... نبغ مصطفى منذ نعومة أظافره وحصل على منحة لدراسة برمجة الحاسب الآلي بالجامعة الأمريكية وهو في سن صغير للغاية مما أهله للحصول على وظيفة مرموقة بشركة مايكروسوفت... هاجر وتزوج أمريكية من أصل لبناني وانقطعت علاقته بمصر إلا من زيارات عمل متباعدة للغاية يزور أمه خلالها دقائق معدودة لا تكفيها لتشبع من مجرد النظر إليه أو احتضانه... غالبتها دموعها فانسابت تحرق عينيها.. وتحرق قلبها اشتياقًا لرؤية أبنائها وتشم رائحتهم المحببة. غطت وجهها بكلتا يديها وأسندت رأسها على الكرسي الأمامي طلبًا لبعض الراحة .................................................................................................................. دقائق كثيرة مضت قبل أن يهتف السائق: هذا هو الشارع سيدتي لم تجبه فألقى عليها نظرة خاطفة قبل أن تزأر عجلات سيارته بصوتها الحاد المزعج إثر احتكاكها القوي بأسفلت الطريق لتتوقف السيارة فجأة ويهب السائق الشاب من مقعده مسرعًا يفتح الباب المجاور لها وهو يناديها وصلنا يا أمي لكن حدسه يتأكد فيضرب كفًا بكف ولسانه لا يتوقف عن نطق الشهادتين ................................................................................................................ إجراءات كثيرة مملة حصلوا بعدها على تصريح الدفن شقيقتها تبكي وتؤكد: لن ندفنها حتى يحضر أبناؤها من الخارج تهاتف الابن فيأتيها صوت زوجته تعزيها بكلمات رقيقة وتخبرها أن مصطفى في رحلة عمل تعود فتهاتف الابنة.. تنقل لها الخبر بصوت تخنقه الدموع... تبكي الابنة وتطلب لها الرحمة تؤكد على الخالة بضرورة دفن أمها بسرعة فإكرام الميت دفنه... وتعتذر عن النزول فزوجها لا يملك رصيد أجازات ولا يجوز أن تسافر بدون زوجها... وقبل أن تنهي المكالمة مع خالتها تؤكد عليها ألا يقيموا عزاء لأمها فإقامة العزاء بدعة يأتيها صوت الخالة باكيًا مصحوبًا بنبرة ساخرة اطمئني يا ابنتي لن نقيم عزاء فلا عزاء للأمهات