(1) المتظاهرون الشباب الذين انطلقوا من جامع القائد ابراهيم في الاسكندريّة، بعد صلاة الجمعة الماضي، توقفوا في محطّة الرّمل، قريباً من تمثال سعد زغلول، فبدوا مترددين، وكأنهم كانوا يسائلون القائد التاريخي عن الطريق الذي يسلكون!؟ كان البحر يستلقي على يمينهم، برياحه العاتية وموجه الغاضب، فيما يمتد على يسارهم شارع صفيّة زغلول، المفضي إلى محطة مصر، والذي يبلغ مبنى المجلس المحلي الذي قادتهم إليه مسيرتهم قبل أسبوع، يوم الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، رافعين صوراً كثيرة لجمال عبد الناصر، ولافتات تستعيد مقولاته، ومرددين هتافات تستنهض صدى صوته المعبِّر عن انتفاء الثقة التاريخيّة بالإخوان. هناك، اشتبك الشبّان بقوات أمن لم تتغيّر عقيدتها في القمع وأساليبه، ولم تتغيّر السياسات التي تُحرِّكها، فتلقوا قنابل الغاز.. وكانوا يتساقطون أمامنا على الأرصفة بعيونهم الغارقة بدموع مسّتها غازات تفعل ما هو أكثر من استدراج ماء العين!. حيرة الشبّان المترددين بين الدروب المتعددة المفتوحة لمسيرتهم، بالقرب من سعد زغلول، أفصحت عن غياب الرؤية، وغياب القيادة الفاعلة والمؤثِّرة، وافتقاد الشبّان المخلصين الذين لا ينقصهم الإخلاص ولا تعوزهم الجسارة، لخريطة طريق ترسم أمامهم خطوطاً لاتجاه المسيرة، في يوم أطلق عليه "جمعة الخلاص"! في المساء. كانت المظاهرات قد بلغت محطة سيدي جابر. وكان اللافت فيها أن الحيرة ظلّت تلازمها على امتداد الدرب الطويل الذي سلكته، وعلى ما تبقى لها من طريق. (2) كنت أعتقد أن الجملة التي كتبتها "سناء" في صفحتها على الفيس بوك، بعد يومين من وصولنا الاسكندريّة، فيها شيء من التسرُّع. كتبت تقول: "في الإسكندرية.. في كل مكان، تشتم رائحة البحر والسمك المشوي ..وكراهية الأخوان". الآن، وبعد أسبوعين من الوصول، أستطيع التأكيد على أننا لم نعثر في تعاملاتنا اليوميّة على ما ينقض صحّة تلك العبارة أو يتناقض معها. هل كان الأمر من حسن طالعنا أم أنها حقيقة المدينة والبشر فيها؟! لم تنقضها صديقتنا التي استقبلتنا في مطار برج العرب، والتي طالما نأت بنفسها تاريخياً عن العمل السياسي وكلّ أشكال التظاهر. لم ينقضها سائق التكسي؛ بائع الصُّحف؛ الخضار؛ الفاكهاني؛ السوبر ماركت.. الموظفون في المؤسسات التي تعاملنا معها. الجميع يعبِّرون عن كراهية مُعلنة لهذا الطاريء الكريه.. الذي يُسمّى "الإخوان". قلت للتقني الذي يُصلح "الدِّش" الذي أفسدته "النوّة" (إحدى حالات غضبة الطبيعة الدوريّة التي يعرفها السكندريون) إنني متفاجئ منذ وصولي، من حجم الكراهيّة التي يكنّها أهل المدينة للإخوان وسلطتهم ورئيسهم. فطمأنني الشّاب المنهمك في عمله قائلاً: "كن مطمئناً.. فطبيعة عملي تفرض عليّ دخول البيوت والحديث مع أصحابها. وليس من حديث الآن في مصر إلاّ حول الأوضاع وما يشغل الناس هذه الأيّام. حتّى الآن، لم أدخل بيتاً إلا وعبّر لي أصحابه عن مثل هذه الكراهية.. التي لمستها أنت في وقت قصير!". بعد أسبوعين، شهدا مزيداً من الموت الذي ما برح يصول في الشوارع والأقسام والميادين ومعسكرات التعذيب، ما زالت الأجواء تزداد عبقاً.. بتلك الرائحة! (3) أصاب الغمّ مصر مساء الجمعة الماضي. الأمر الذي لا ينقص أهلها وناسها أبداً منذ أن هبط عليها هذا الليل الأشد سواداً. ولقد رأيتها ذلك المساء وهي تتكوّم على نفسها، لتحمي روحها من البرد والقهر والأوجاع. بكت مصر ذلك المساء مع نداءات أم الشّاب محمد الجندي، الذي اختُطف وعُذِّب في أحد معسكرات الداخلية، وكان في حينها يرقد في مشفاه قبل أن يُسلِّم الروح صبيحة الإثنين الماضي، ليعيد التاريخ، في عهد محمد مرسي، سيرة خالد سعيد، التي أطاحت بنظام مبارك وحبيب العادلي. لكن يبدو أن لا أحد يتعلم من أحد.. أو يتعظ! بكت المحروسة كثيراً وهي تصغي في الليلة نفسها لشهادات بناتها الأكثر طهراً، اللواتي تعرضن لعمليات تحرش جنسي في ميدان التحرير، ولمحاولات اغتصاب ممنهج، مموّل وموجّه من جهات متنفذة، للحيلولة دون تأنيث ميادين الثورة. ثم بكت أم الدنيا وهي ترى واحداً من أبنائها يُعرّى من كامل ملابسه ويُسحل من قبل عساكر الداخلية بمحاذاة أسوار قصر الرئيس ونوافذه المشرّعة على المشهد، ثم يجري سحله على مرأى من العدسات المعولمة المفتوحة على الكون. نامت مصر ليلتها عارية.. مُعرّاة.. منتهكة.. منهوكة، ترتجف برداً وتتميّز غيظاً. وفي الصباح بدت وجوه الناس مكفهرّة، متوترة، مثل قنابل موقوتة على وشك الانفجار، وبدا الحال كحال الأيام التي استبقت ثورة يناير قبل عامين. فيما النظام الذي دأب منذ لحظته الأولى على تزوير إرادة الشّعب، يعكف على تزوير عيون الكون، ومحو ما رأته مصر في تلك الليلة الطويلة.. التي بكت فيها كثيراً. *** لا شيء أصعب من الكتابة عن مصر الآن، إلا الكتابة عنها وأنت ترقد في جناينها التي تراها حولك وهي تحترق. لا شئ أقسى من كتابة الحريق من قلب الحريق! [email protected]