مصر تغيّرت... لا يكلّ مسؤولون مصريون وعرب ودوليون عن تكرار هذه اللازمة، وهي صحيحة على أي حال، فهل تغيّرت فعلاً، وكيف؟ الجواب ليس في الإخراج الذي اعتمد ل«التهدئة» في غزة، بل في ما حصل غداة هذه «التهدئة»، سيل من الإشادات لمصر ودورها ورزانتها واعتدالها، وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة سيل من البيانات والتصريحات، خصوصاً من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية تبدي قلقاً من القرارات التي اتخذها الرئيس محمد مرسي للتعامل مع مشاكل الداخل، وقوبلت باحتجاجات واستنكارات واسعة من قوى المجتمع المدني. في الواقع تغيّر الدور المصري ظاهرياً بالنسبة إلى غزة، لكن هذا لم يمنع من التوصل إلى ما أرادته الولاياتالمتحدة وإسرائيل، أما القول بأن مواقف القاهرة تعزز نهج المقاومة المسلحة ضد نهج التفاوض والحل السلمي فلا يزال بحاجة إلى اختبار. ما تأكد في أحداث غزة هو أن مصر باتت معنية ب«حماس» وأخواتها، أكثر مما هي مهتمة بالسلطة الفلسطينية، بل لم تتردد في تهيئتها، مناسبة في سياق ما تفعله الإدارة الأميركية وإسرائيل من تضييق على هذه «السلطة» بسبب إصرارها على الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لنيل صفة «الدولة غير العضو» وبالتالي «الدولة تحت الاحتلال» التي توجب على إسرائيل وعلى العالم التعامل معها بما تلحظه القوانين الدولية بهذا الشأن. لم يكن في نصرة غزة وأهلها ضد العدوان ما يعيب الموقف المصري، لكن نأيه عن السلطة وانكبابه على غزة، حتى قبل العدوان، يثير شكوكاً كثيرة ولذلك تكثر التساؤلات داخل مصر عما «يحاك» لغزةوسيناء وعن علاقة ذلك بمجمل القضية الفلسطينية وحلولها «السلمية». يبقى التغيير الأهم والأخطر هو ذلك الذي تشهده مصر - النظام، فبعد شهرين من تنصيبه رئيساً انتهز محمد مرسي أحداث سيناء وما أثارته مجزرة الخامس من أغسطس لإطاحة الطاقم العسكري الموجود في القيادة منذ العهد السابق، وأنهى عملياً حكم العسكر متسلحاً بالرأي العام مؤيد للانتقال إلى حكم ذي مرجعية مدنية. ثم بعد خمسة أشهر استغل المناخ الدولي بعد «التهدئة» في غزة، وبعد الاتفاق على القرض من البنك الدولي، ليطيح السلطة القضائية، ويحصّن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور من أي حكم متوقع بحلهما. وكان «الشورى» مرشحاً للإلغاء للأسباب نفسها التي ألغت مجلس الشعب، أما «الجمعية» فتهشمت مصداقيتها ولم تعد تمثل سوى تنويعات من اللون السياسي الإسلامي الواحد. كانت الذريعة «حماية الثورة» بإعادة المحاكمات لرموز العهد السابق وبإنصاف «شهداء الثورة» وأوليائهم، وتحت هذه اليافطة الشعبوية يجري تمرير أجندة كان الجميع يتوقعها، لكن كان الجميع يأمل أيضاً في استيعاب درس الانتخابات الرئاسية التي أظهرت مصر منقسمة إلى شطرين شبه متساويين، وبالتالي لا يمكن الحكم إلا عبر لمّ الشمل واستنهاض كل القوى. لكن الحكم الجديد لم يعترف بأن صناديق الاقتراع لم تمنحه «شرعية» كاملة، وأن المرحلة لا تزال انتقالية، وعندما أسقط دعامة المؤسسة العسكرية التي كانت ركيزة للحكم طوال ستين عاماً، قوبل بالتفهم، لأن «الثورة» طالبت منذ يومها الأول ب«دولة مدنية»، إلا أنه لم يتنبه إلى أن «حكم العسكر» نفسه لم يُسقط السلطة القضائية، وإنْ اكتفى بتطويع بعض أشخاصها في حين أن مجمل الجسم القضائي، ظل ضعيفاً باستقلاليته، وخاض مواجهات قاسية مع النظام السابق. كان واضحاً أن ثمة صراعاً بدأ حول القضاء منذ حلّت المحكمة الدستورية مجلس الشعب، مستندة إلى مخالفات مثبتة لقانون الانتخاب وارتكبها «الإخوان المسلمون» بشكل رئيسي، وتفاقم هذا الصراع غداة الانتخابات الرئاسية التي لاتزال تحوم الشكوك حول نتائجها، ثم بعد الأحكام بالبراءة لمتهمين من رجال النظام السابق بارتكاب جرائم قتل، وأخيراً في المعركة على الدستور. بديهي أن الرئيس، في نظام رئاسي، وجد نفسه مجرداً من أدوات الحكم ودعامات الشرعية، فقرر حصر كل السلطات في قبضته، لكنه لم يستبق ذلك، ولم يعقبه، بعمل ناشط ودؤوب لتذويب الانقسام الوطني الحاد، الذي يحتاج إلى حتمية فتح حوار واسع مع مختلف الفئات. كان العرب يأملون بأن يتوصل النظام المصري السابق إلى نموذج يمكن أن يحتذى في التعامل مع تيار الإسلام السياسي، لكنه فشل، وبعد سقوطه أملوا في أن يعطي «الحكم الإسلامي» نموذجاً أمثل يؤكد فيه هذا التيار حكمته وأريحيته، بين مصر وتونس يتأكد أن هذا الرهان كان خاطئاً إن لم يكن وهمياً. ********************************** **************** (نقلا عن الاتحاد - الامارات)