المتأمل فى تاريخ مصر الحديث لن يجد في أيامه أياماً أجمل من هذه الأيام وأفضل منها.. فقد مرت أيام الحرب كلها دون أن تسجل محاضر الشرطة جريمة سرقة واحدة في ربوع مصر كلها.. ولم تسجل محاضرها مشكلة أو خناقة أو حادث تعدٍ بين مصريين في طول البلاد وعرضها.. وهذا لم يحدث في تاريخها سوى أيام معدودة فى ثورة 25 يناير. وكنت لا تسمع في الراديو أو التليفزيون إلا قصص البطولات والتضحيات العظيمة.. وقصص الشهداء.. وآيات الجهاد والحث على البذل والعطاء.. وسبحان الله حينما تسمع في أجهزة الإعلام عن الدعوة للجهاد في سبيل الله.. والحث علي مقاتلة اليهود المغتصبين بلادنا والمعتدين على أرضنا ومقدساتنا.. مع عرض لكل الآيات التي تدعو لقتالهم ونزالهم. كل ذلك في كفة وسرد قصص الشهداء في الإذاعة والتليفزيون في كفة أخري.. فتري فيها التطبيق العملي وعلي أرض الواقع لهذه الآيات والأحاديث التي تسمعها.. فتأخذك قشعريرة كلما سمعتها.. وتحلق روحك في آفاق بعيدة لتطلب الشهادة في سبيل الله وترغب في أن تكون واحداً منهم. واليوم وبعد مرور 40عامًا على نصر أكتوبر تحتفل مصر لأول مرة بالنصر دون إقصاء لأحد.. فنصر أكتوبر ملك للجميع.. صنعه السادات والشاذلي.. والجمسي وأبوغزالة.. وعبدالمنعم خليل ومحمد عبدالقادر حاتم .. صنعه الجندي الصغير والقائد الكبير .. صنعته كل الأسلحة.. صنعه الطيران والمدفعية والمشاة والمدرعات والبحرية والدفاع الجوي. صنعه الشهداء الذين لم يذكر أحد أسماءهم.. ولكن الله يعرفهم ويعرف قدرهم وهو الذي جعل أرواحهم في أجواف طير خضر "ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها".. ولا يضرهم ألا يعرفهم البشر.. وألا تكتب عنهم الصحف. نصر أكتوبر ملك للمشير العظيم الزاهد أحمد إسماعيل الذي كان وقتها قائدًا للجيش ووزيرًا للحربية فمات بعد الحرب بقليل.. فلم يذكره أحد ولم يهتم به أحد.. وأهال مبارك التراب عليه.. رغم أنه لا ينافسه في شيء من الدنيا. المشير أحمد إسماعيل الذي عاش ومات زاهدًا ولم يغير مسكنه وأثاثه البسيط قط. هذا النصر ملكٌ للفريق عبد المنعم رياض .. ذلك العسكري الفذ الذي نقل العسكرية المصرية من مدرسة الدفاع إلي الهجوم والمبادأة.. حتى كان يطلق عليه لقب "الجنرال الذهبي". هذا النصر ملكٌ للفريق فوزي الذي تحمّل عبئًا كبيرًا في تجهيز الجيش المصري للحرب وإعادة تأهيله بعد كامل تدميره في 5 يونيو 1967م.. فهو الذي أعاد إليه الانضباط العسكري بعد التسيب الذي ساده قبل كارثة يونيو.. حتى كان الجندي المصري يعتبر عبور قناة السويس أسهل من ضبط الشرطة العسكرية له بمخالفة عسكرية.. فلا يقصى الفريق فوزي لخلافه السياسي مع السادات.. لأن التاريخ العسكري الناصع لا يمحوه الخطأ السياسي حتى وإن كان فادحًا. هذا النصر لا يقصى منه أحد على الإطلاق.. حتى الرئيس عبدالناصر الذي هُزمت مصر في عهده قد شارك في صنع هذا النصر بأن جهّز الجيش المصري تجهيزًا علميًا وأكاديميًا وفنيًا وتقنيًا وتدريبيًا على أعلى مستوى في فترة حرب الاستنزاف.. وأعاد إليه روحه القتالية العالية التي تهدمت في 5 يونيو 1967 م.. ولا يقصى منه اللواء نبيل شكري أسد الصاعقة الذي قاد القوات الخاصة المصرية طوال حرب الاستنزاف والعبور العظيم.. والذي يقبع الآن في السجن.. وقد جاوز الثمانين من عمره.. فلا يلغي تاريخه العسكري المجيد خطأ وقع فيه.. لا علاقة له بهذا التاريخ العظيم. هذا النصر لا يقصي منه أحد.. حتى حسني مبارك الذي أقصى الآخرين من نصر أكتوبر لا ينبغي إقصاؤه.. وعلينا أن نفرق بين حسني مبارك قائد الطيران الذي أبلى وسلاحه وطياريه بلاءً حسنًا وحسني مبارك الرئيس الفاسد الذي ظلم نفسه وشعبه. لقد قضينا 30 عامًا كاملة في خصخصة وشخصنة حرب أكتوبر بحيث تكون قاصرة على مبارك وحده مع إقصاء الآخرين جميعًا. واليوم يعود نصر أكتوبر للشعب المصرى كله بلا استثناء.. ذلك النصر ملك لكل من أسهم فيه بدءًا من الفريق المسيحي فؤاد عزيز غالي قائد إحدى فرق الجيش الثاني الميداني والذي أبلى بلاءً حسنًا في حرب أكتوبر وأسر اللواء عساف ياجوري وتدمير مدرعاته.. وانتهاءً بالأم التى ضحت بوليدها في الحرب.. أو الأب الذي احتسب ابنه شهيدًا في أكتوبر. نصر أكتوبر ملك لكل صانعيه بدءًا من أسد الصاعقة العظيم الشهيد إبراهيم الرفاعي وانتهاءً بأصغر تلاميذه من أمثال ابن خالتي البطل الشهيد مراد سيد.. وكلاهما حاصل على نجمة سيناء أرفع وسام عسكري مصري. نصر أكتوبر عاد لأصحابه مرة أخرى.. فقد عاد لشعب السويس البطل وعلى رأسه الشيخ "حافظ سلامة" رمز الصمود الشعبي في عملية تحرير السويس إلي الفرقة 19 بقيادة الفريق عفيفي والفرقة 7 بقيادة البطل العظيم المشير أحمد بدوي الذي قاد العسكرية المصرية بعد ذلك. كفانا خصخصة وكفانا شخصنة.. إنها معركة أمة بأكلمها.. ضحّت وعانت وبذلت وتحملت. لقد أقصى أهل سيناء الأبطال من ملحمة العبور العظيم.. بل إن أهل سيناء جميعًا تم إقصاؤهم من المعادلة المصرية بعد التحرير.. مما اضطر بعضهم في النهاية إلي الولوج في فكر التكفير أو في تجارة المخدرات.. أو في التهريب. سيناء اليوم تحتاج إلي عبور ثانٍ.. عبور جديد بالاحتضان والائتلاف والتنمية والحب والدعوة والعلم.. سيناء اليوم لا تحتاج إلي مسكنات. السادات يحتاج اليوم إلي إعادة اعتبار واعتذار من الحركة الإسلامية التي قتلته بعد أن أعطاها وأعطى الدعوة الإسلامية قبلة الحياة بعد أن أشرفت على الموت الإكلينيكي في الستينيات. يحق لمصر اليوم أن تعيد مرة أخرى ذكرى وأغاني ومشاعر وهمة وتآخي وتواد وتراحم وعزيمات أكتوبر من جديد.. هل نتعلمها اليوم مجددًا.. أم ماذا؟!