في كتابه »المثقفون العرب والغرب« كتب هشام شرابي يقول »من وجهة نظر الشعوب المُستعمَرة ليس هناك شيء اسمه امبريالية جيدة فمهما كان شكل الاستعمار سواء كان مباشراً أم امبريالية سياسية أو اقتصادية وسيطرة غير مباشرة، فإنه دائماً مُستغِل ومُشوه للبلد المستعمَر، ومهما يكن الخير الذي جنته مصر والهلال الخصيب أو أي جزء من العالم العربي من الحكم البريطاني أو الفرنسي فإن ذلك كان دوماً نتيجة هامشية لعملية نفذت لخدمة المصالح البريطانية والفرنسية، فلم تكن الامبريالية الغربية، برغم بعض الجوانب الإيجابية، قوة محبوبة في العالم العربي . بالعكس كانت هي قوة قهر اجتماعي واستغلال اقتصادي« . بعد ذلك عدد الباحث عدداً من »الآثار التي لا تحصى« كما وصفها، والتي تركها الاستعمار الغربي على المجتمع العربي المعاصر . لم يكن هشام شرابي يكتب خطاباً ثورياً حماسياً وهو الباحث الرصين المتأني الذي يتمتع بهدوء ورزانة المثقف، وإنما كان يحلل الواقع العربي من زواياه المختلفة، بما في ذلك من زاوية تأثير الاستعمار عليه . لكن كتاب »المثقفون العرب والغرب« كان كتاباً مبكراً في التسلسل البحثي لشرابي . ففي أعماله اللاحقة سيتوغل أكثر في البنية العربية الداخلية معملاً فيها مشرط النقد والتحليل . لم يغفل العامل الخارجي ولكن لم يعد لهذا العامل مركز الثقل في عمل الباحث، لا تراجعاً عما ذهب إليه في الفقرة أعلاه، وإنما نقل لدائرة الضوء على المنطقة التي خلص الباحث إلى أنها تشكل مربط الفرس، لذا فإنه في »البنية البطركية« سيدعو إلى إعادة النظر في الديمقراطية السياسية والوحدة والعدالة الاجتماعية لإعادة صياغتها من زاوية الواقع التاريخي الذي نحن فيه . إنه ها هنا أيضاً يقول إن الخطر ينبع من الاستعمار الاستيطاني والامبريالية، لكنه ينبع أيضاً من التفكك الاجتماعي الداخلي والانهيار الاقتصادي من النزاعات العربية والحروب الأهلية العربية، ليخلص إلى أنه »لا يمكن حماية المجتمع العربي إلا بفعل قوة من داخله« . أكثر من ذلك فإنه يذهب إلى خلاصة أهم هي أن انتظار الثورة لتغيير الوضع القائم موقف غير ثوري، ذلك أن العمل الجذري الحقيقي ليس العمل الذي يُنْتَظَر ويُشاهَدُ، بل الذي ينظر أولاً ما هو قابل للتحقيق، رافضاً الشعارات الوهمية، إن تحقيق الممكن وحماية الوجود القومي، مرهونان بالعمل المسؤول في الواقع اليومي . الطبعة العربية للكتاب صدرت في عام 1987 عن دار الطليعة في بيروت، أي منذ نحو ربع قرن، وفيه يطرح هشام شرابي التساؤل التالي: كيف يمكننا العمل في الواقع اليومي؟ »كيف يمكننا مثلاً تحويل العلاقة بين الدولة ومواطنيها من علاقة مبنية على العنف إلى علاقة مبنية على القانون«؟ ولو أراد أحدنا اليوم أن يفكر في ما هو السؤال المحوري الذي نواجهه فلن يجد أفضل من هذا الذي صاغه شرابي في ما يشبه استشراف الفكر للمستقبل أو حدسه به .
أكثر من ذلك إننا لن نجد جواباً أفضل وأدق من الذي صاغه هو يومذاك: »الالتزام بالوسائل القانونية القائمة على اللاعنف في العمل السياسي قد يؤدي إلى نتائج عملية كوضع حد لعنف الدولة وطبع العلاقات الاجتماعية بطابع إنساني«، وغني عن القول إنه يجب تطوير الوسائل القانونية ذاتها وتحسين كفاءتها، لكي تكون أهلاً للنهوض بهذا الدور . ********************** (نقلا عن الخليج الاماراتية)