لا تسألوا لماذا تنهار العمارات على رؤوس سكانها وهى ما زالت حديثة بينما العمارات القديمة تقف شامخة تتحدى الزمن، ولا تسألوا لماذا أصبحنا نسمع عن أخطاء طبية قاتلة خلال إجراء عملية اللوز أو غيرها من العمليات البسيطة، ببساطة هؤلاء هم نتاج سنوات طويلة من منظومة تعليمية فاشلة نرفض أن نصارح أنفسنا بخطورة فشلها وتأثيره على كل نواحى الحياة. للعام الرابع على التوالى وفى تحدٍ سافر وصارخ للحكومة بشكل عام ولوزارة التربية والتعليم بشكل خاص قامت صفحات الغش الالكترونى على مواقع التواصل الاجتماعى بتسريب امتحان مادتى اللغة العربية والتربية الدينية قبل دقائق من بدء الامتحان، وتجاوز هذا التحدى مداه بنشر صورة واضحة لنموذج إجابة امتحان اللغة العربية الخاصة بالكنترول مصحوباً بتقديرات الدرجات عن كل سؤال، فى واقعة هى الأولى من نوعها فى تاريخ الثانوية العامة، والغريب فى الموضوع أن السنوات الأربع الماضية لم تكن كافية حتى تتمكن الحكومات والوزارات المتعاقبة من السيطرة على هذا الصفحات وإغلاقها والأغرب أن أقصى إجراء استطاعت الوزارة اتخاذه هو إلغاء امتحان التربية الدينية وتحديد يوم إضافى بعد انتهاء الامتحانات لعقد امتحان جديد للدين، وقد سارع عدد من نواب مجلس الشعب بتقديم طلب استدعاء لوزير التعليم الهلالى الشربينى وطالب بعضهم بإقالته على خلفية تلك الواقعة، والسؤال هو ما ذنب الطلبة الذين يمتحنون فى أجواء صيام حارة وبالغة الصعوبة، فى إعادة هذا الامتحان وهل سيحاسب المسئول عن تسريبه، أم أن الطلبة وأولياء الأمور هم فقط من يتحملون أوزار منظومة التعليم الفاشلة وفسادها، وما ذنبهم فى سرقة مجهودهم وتعبهم وسهرهم ومنحه لآخرين. هدانى عقلى للدخول إلى صفحات الغش الالكترونى على الفيسبوك لأرى كيف يفكر زائروها والقائمون عليها، وهالنى ما قرأت، فعلى تلك الصفحات ستجد أفضل الطرق لتهريب الموبايل إلى داخل اللجنة، كما ستجد أسعار الامتحانات المسربة مصحوبة بتأكيدات وتطمينات بإعادة المبالغ المالية لأصحابها فى حالة عدم تطابق الامتحان المسرب مع الامتحان الأصلى، ستجد عبارات الثناء والمديح على أدمن الصفحة ومطالب من بعض الطلبة بضرورة توضيح الخط الذى تكتب به الاجابات، أو تكبير حجم الصور المسربة للامتحانات، كما ستجدون دعوات مريرة تلاحق هؤلاء المسربين والغشاشين يدعوها عليهم الطلبة الذين عانوا الأمرين وواصلوا الليل بالنهار فى المذاكرة ليأتى مجموعة من الفشلة يسرقون أحلامهم بضغطة زر على موبايل، إنه عالم متكامل تستخدم فيه أحدث فنون التواصل فى أسوأ ما وصلت إليه البشرية من غش وخداع وسرقة لمجهود الأخرين. أما أغرب ما توصلت إليه كان تأكيد القائمين علي صفحة "شاومينج" - أشهر صفحات الغش الالكترونى - أنهم يقومون بتلك الأفعال للضغط على الحكومة لتحسين منظومة التعليم ويرون أنهم يقدمون تلك الصفحات خدمة للطلبة الفقراء الذين ليس لديهم امكانيات للحصول على دروس خصوصية ويلومون على فساد المنظومة التعليمية وفشلها فى جعل التعليم حقاً مكفولاً للجميع، وقد ذكرتنى تلك الوقائع بواقعة حدثت فى مارس الماضى فى السودان، حيث تحفظت السلطات السودانية على 26 طالباً مصرياً وبعضاً من أولياء الأمور بتهمة الغش فى امتحانات الثانوية السودانية بواسطة الهواتف المحمولة، لأنهم يعتبرون مسألة الغش فى تلك الامتحانات قضية أمن قومى، ولم تنتهى المشكلة إلا بعد سفر وزيرة الهجرة السفيرة منى مكرم بنفسها إلى السودان لحل المشكلة والمطالبة بالافراج عن الطلبة المصريين، فمتى يمكن أن تمثل لنا الثانوية العامة فى مصر قضية أمن قومى،ومتى يمكن أن تصل الجهات الرقابية ووزارة التعليم للمسئولين عن تلك التسريبات التى خرجت هذه المرة من داخل الوزارة مصحوبة بنماذج الإجابة. إن المسئولية الاجتماعية فيما آل إليه حال التعليم من تدنٍ هى مسئولية مشتركة بين الموظف المرتشى الذى سرب الامتحان ونموذج الاجابة، والطالب الفاشل الذى رباه أهله على أن الغش فهلوة وشطارة، وينضم إليهم فى تلك المسئولية المتراخين عن تطوير منظومة التعليم فى مصر التى تئن منذ سنوات بعيدة من سوء ما آلت إليه. لا أظن أن حال التعليم فى بلدى سينصلح فقط بالاجتماعات والزيارات والاتفاقيات وصرف المكافآت وعقد اللجان المصغرة المنبثقة عن لجان أخرى أكبر منها، أوحتى بإغلاق كافة مواقع الغش الالكترونى وملاحقة الغشاشين، لكنه سينصلح بعودة الضمير والأخلاق والوعى للمواطنين، وبتدريب المعلم وتطوير وتحديث المناهج والبعد عن أساليب التلقين والحفظ، والاعتماد على الابداع والابتكار واكتساب المهارات، ونقل الخبرات والتجارب من دول كانت تلينا فى التصنيف العالمى لجودة التعليم وأصبحت اليوم تتقدمنا بعشرات المراكز، وأخيراً أؤكد لكم أن مصر لن تظل "أم الدنيا" ما لم نعط المزيد من الأهمية لتطوير التعليم.