تكتب : هنا العتبة الحمراء فى ليلة من ليالى الشتاء القارصة البرودة كنت أسير بصعوبة فوق الرصيف الذى شغله عشرات الباعة الجائلين ببضاعتهم المتواضعة فى ميدان العتبة، تناهى إلى سمعى صوت رجالي وهو يسب الدين والعياذ بالله، لم ألتفت خلفى فالفعل أصبح بكل أسف مألوفا. ولكن بعدها مباشرة سمعت صوت زوجى وهو يتشاجر مع أحدهم، إلتفت خلفى لأجده قد إشتبك مع أحد هؤلاء الباعة، كان لا يستطيع السير بجوارى لضيق المسافة التى تركها هؤلاء لسير المارة. من خلال الحوار الذى دار بينهما علمت أن ذلك البائع الذى سمعته كان يقصدنى حين تطاول على دين الله، فقد كنت أرتدى معطفا جلديا طويلا، و على ما يبدو أنه احتك بوعاء من البلاستيك أثناء سيرى فأسقطه دون أن أنتبه فى عرض الطريق قبل أن تأتى سيارة أجرة لتطأه وتحوله لأشلاء. كان شابا فى العشرينات، وقد راح يهدد ويتوعد بمنتهى الجرأة والوقاحة أننا سنندم إن لم ندفع له مبلغ عشرة جنيهات ثمن ذلك الشئ الذى كسر، وذلك على مرأى ومسمع عشرات من المارة والباعة الذين تجمهروا حولنا. لم يكن الدفع هو مشكلتنا مع ذلك الشخص بالتأكيد وإنما الأسلوب الهمجى الذى انتهجه ، وحين قلت له ذلك، أجاب بمنتهى الصفاقة : مش عايز كتر كلام، كلمة كمان وحاخليهم خمسين. أمسكت هاتفى المحمول بغضب وأنا أهدد بجدية أننى سأتصل بأحد معارفنا من الضباط ليرى من منا المخطئ، المارة الذين خصص ذلك الرصيف من أجلهم، أم البائعين الذين إعتدوا على حرم الرصيف و حولوه إلى سوق تجارى لحسابهم؟ وهنا تدخل العشرات من زملائه ليسترضونا بل وعرضوا علينا أن " نتكل على الله " و يدفعوا هم ذلك المبلغ مقابل ألا نستدعى الشرطة ، إشترطنا أن يقوم بالإعتذار حتى لا نفعل، إعتذر من طرف أنفه ، فرمينا له النقود وإنصرفنا. عندما عدت إلى البيت، وإستعدت ذلك الحدث ، فى مخيلتى إكتشفت أن الولد - رغم خطئه - إنما هو ضحية لظروف إجتماعية وإقتصادية بل وتشريعية ظالمة. ما الفرق بين هذا الشاب وبين شاب واعد فى إحدى كليات القمة فى الجامعة؟ ، هذا الشاب خرج إلى الشارع من قبل أن يتعلم كيف يرفع سرواله أو يمسح أنفه أو يهش الذباب العالق على وجهه، هل قام أحدهم بتعليمه شيئا ولو يسيرا عن دينه الذى قام بسبه؟ هل إهتم أحد بدراسته أو تأهيله أو حتى عقابه حين كان يخطئ؟ هل عرض عليه أحدهم عملا آخرا يوفر له الحد الأدنى من الكرامة وبدخل يماثل الدخل الذى يحصل عليه أو حتى يقل عنه قليلا؟ هل غلظ المشرع عقوبة "سب الدين" و فواحش القول التى تؤذى أسماعنا ليل نهار؟ نعم أجرم الولد، لكن ماذا عن الذين جعلوه مجرما؟ أحسست ساعتها أن البلد التى نعيش فيها إنما يحيا بلطف الله لا عدله. ففى الحديث ان الله عز وجل أمر بإهلاك إحدى القرى، فقالوا يارب إن فيها فلانا الناسك فقال الله : به فابدؤا فإنه لم يتمعر وجهه لى قط. أخاف أن أقول أن غضب الله قد مسنا، وها هى الحرائق تحاصرنا من كل صوب، أيا كان الفاعل وأيا كانت المبررات. لو كان السادة المسؤولون يغضبون لله كما يغضبون لأنفسهم؟ لو كان رجال الشرطة يقبضون على هؤلاء المجرمين بنفس الهمة التى تعتريهم حين يقبضون على من يسب أحد كبار المسئولين فى الدولة، ما كنا وصلنا إلى هذه الهاوية غير الأخلاقية. للأسف ما أقوله إنما هو مؤشر على أننا لا نسير فى الاتجاه الصحيح ، و الاتجاه الصحيح ليس مستحيلا ولا مكلفا ولنا فى التجربة السنغافورية مثلا. كانت سنغافورة حتى وقت قريب تعانى من الفقر والفساد والجريمة و إنتشار الدعارة والمحسوبية، كان الجميع يرى أن الإصلاح مستحيل، ولكن عندما جاء " لى كيوان " للحكم، إلتفت إلى المعلمين، وكانوا فى حالة يرثى لها من شدة البؤس والإزدراء، فمنحهم أعلى الأجور وقال لهم : أنا أبنى لكم أجهزة الدولة، وأنتم تبنون لى الإنسان. نحن بالفعل ندفع ضعف ميزانية التعليم لمحاربة هؤلاء، أو لمعالجة أخطائهم، أو سجنهم و الصرف على معيشتهم داخل السجون، وقد نرأف بالصالحين منهم، فنبنى لهم مساكن آدمية كان من الممكن أن يوفروا تكلفة بنائها على الدولة ، فيقوموا هم بإنشائها لو كانت الدولة إحتوتهم و أنفقت عليهم فى العملية التعليمية فصاروا مهندسين أو عمالا مهرة. ربما لا يعرف الكثير من المصريين أن ميدان العتبة هو نقطة الأصل للقاهرة فمنه تقاس المسافات على الطرق السريعة من وإلى العاصمة. لكنى أراه مقياسا ايضا لمستوى المعيشة الذى وصل إليه حال الأغلب الأعم من الشعب وهم يقبلون على شراء البضاعة الزهيدة السعر ليوفروا ولو جنيهات معدودات. أراه مقياسا يدل على مدى التشويه الذى طال كل ماهو جميل لتتحول دولة حضارة السبع آلاف عام إلى دولة القبح وإنعدام الذوق العام ، فقد كان الميدان يوما ما ، تحفة معمارية مدهشة. هو مقياس أيضا يصلح لقياس مدى تدهور الفنون فى مصر، فقد قامت على أرضه دار الأوبرا الخديوية - الوحيدة فى الشرق الأوسط - فى القرن قبل الماضى وبثت من خلالها أوبرا ريجيلتو وأوبرا عايدة للموسيقار الطليانى فيردى وغيرهما كثير، وذلك قبل أن تحترق بكامل محتوياتها التى لا تقدر بمال فى عام 1971 لتحل مكانها ميكروفونات مزعجة تؤذى آذاننا بأغانى فرتكة وهاتى بوسة يابت. أراه مقياسا للمستوى العلمى والتكنولوجي الذى آلت إليه الدولة بعد أن فشلت فى السيطرة على حريق حدث على بعد خطوات من المقر الرئيسى للمطافئ فى القاهرة. وأخيرا هو مقياس يعكس المستوى الأخلاقى الذى إنحدر إليه المصريون وهم يتلفظون بأحط العبارات دون أن يقول لهم أحد المسئولين كلمة "عيب" فلا غرابة أن يحاصرنا غضب المولى وتضيق علينا معيشتنا من كل صوب ، و فى يوم وليلة إذا بالعتبة الخضراء تتحول إلى عتبة حمراء. التعليم والأخلاق يا سادة قبل أن تمسنا النار فى الدنيا قبل الآخرة. المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية