تكتب : وجع فى قلب البهية فاطمة او (البهية) كما اطلق عليها معلمها فى المرحلة الابتدائية، فتاة جميلة ممشوقة القوام ، تحمل وجها مليحا اجمل ما فيه عينان واسعتان كمل سوادهما وبياضهما، لا يخفى عن الناظر اليها ذكاء شديد يطل منهما ، تتمتع برقة و لين من غير افراط، فهى تحمل فى صدرها قوة وعزيمة تستدعيهما عند اللزوم و لم يخذلاها يوما. كبرت البهية وتزوجت وصارت أما لاربعة اطفال ، لم تكن تريد المزيد ولكن الله أراد لها غير ذلك، فوضعت "عبد الرحمن" طفلها الخامس بعد ولادة متعسرة وشاقة استدعت بقاءها فى المستشفى عدة ايام. كان ولدا جميلا شديد الشبه بأمه ، إلا أنه ولد ناقص النمو مما استدعى احتجازه فى غرفة العناية ، فكانت تذهب اليه لترضعه وفى كل مرة تحتضنه تبكى وهى تدعو الله أن يحفظه. وفى يوم وهى على هذا الحال تناهى الى سمعها بكاء طفل صغير يرقد بالقرب من صغيرها، اتجهت بنظرها اليه بتلقائية فوجدت بإحدى الممرضات تحاول اسكاته ، وعلمت منها أنها رضيعة تركتها امها ورحلت ، كانت الممرضة على علم ببعض التفاصيل فأخبرتها انها على ما يبدو خافت من ردة فعل زوجها - المسافر الى الخارج - الذى توعدها بالطلاق ان جاء المولود أنثى مما أصابها بحالة اكتئاب حاد وخرجت على إثر ولادتها دون أن يعرفوا لها عنوانا. تحركت مشاعر البهية وغلبتها دموعها واقتربت من الصغيرة ، أشفقت المرأة على تلك المخلوقة التى لا حول لها ولا قوة ، استأذنت الممرضة ان ترضعها فسمحت لها ، ضمتها الى صدرها فاستكانت الصغيرة واغمضت عينيها فى استسلام تام. ومنذ ذلك اليوم ، اصبحت زيارة الصغيرة مع زيارة عبد الرحمن بالنسبة لها عملا لا يتجزأ وارتبطت بها ارتباطا غير عادى ونذرت فى نفسها إن من الله على وليدها بتمام الشفاء ستأخذ معها الصغيرة ، وقد كان وعادت الام الى بيتها حاملة عبد الرحمن وأخته التى اختارت لها اسم صفية بعد ان اتخذت الاجراءات القانونية بموافقة زوجها بالطبع. نشأت الصغيرة مع تلك الأسرة ولم يخطر لها او أحد من اخواتها ان البهية ليست أمها.حتى أن الأم والاب نفسيهما كثيرا ما كانت تغيب عن ذهنهما تلك الحقيقة. وسرعان ما كبر الطفلان وهما يحملان لبعضهما مشاعر لا تختلف عن مشاعر اى توأمين طبيعيين ، فكل منهما كان لا يتحمل على الاخر مجرد نظرة عتاب من أحد. وحين جاء موعد التقديم للمدرسة ، بدأت حيرة اأم واأب ، اذ كيف سيواجهان تلك المشكلة؟ فمن الصعب عليهما إخبار الطفلة وبقية الأبناء بالحقيقة خاصة عبد الرحمن. لم تدم حيرة الوالدين طويلا ، فقد جاءهم إنذار من المحكمة محا تلك الحيرة وحولها الى كابوس مخيف لم يخطر لهما على بال. فبعد ان تبنت البهية تلك الصغيرة بعامين وضعت امها ولدا وبدأت تتعافى من مرضها فأخبرت زوجها بأمر الصغيرة التى وضعتها أثناء سفره وكانت قد ادعت من قبل انه كان ولدا خرج الى الحياة وما لبث أن مات ، الا انها لم تهنأ فى حياتها منذ تلك اللحظة. حاول زوج البهية ان يمهد لرحيل الطفلة ، فأخبر أولاده بأن صفية ستسافر الى جدتهم لفترة إلا أنهم ثاروا ثورة عارمة حتى أن عبد الرحمن امتنع عن تناول الطعام حتى جف عوده وذبلت عيناه ، وراحت صفية تبكى واشترطت على أبيها إما ان تذهب مع اخوتها او تظل معهم. أما الأم فقد خيم عليها الحزن التام ، وأخذت تستدعى ذكرياتها مع الطفلة ، أيام الرضاعة و السهر عليها فى حال مرضها ، ويقظتها فى قلب الليل لتهدئ من روعها حين كانت ترى حلما مزعجا ، بل والدماء التى أمدتها بها يوم أن خضعت لعملية دقيقة فى اأمعاء ، لحظات مرحها وبكائها ، أين كانت أمها من كل هذا؟ و بأى حق تطالب بها بعد أن تركتها لمصيرها؟ ولم لم تتذكرها إلا بعد ان اطمأنت و أتت بالولد؟ ربما لو رزقت بإبنة ثانية لتركتها هى اأخرى ، نعم هى أيضا ام ولكنها مؤمنة بأن الأم الحقيقية هى من سهرت وكدت ولم تبخل بمال ولا بدم حتى اشتد عودها ، هى أول من اهتزت طربا لسماع كلماتها الأولى و هى من طارت فرحا حين رأت خطواتها الأولى ، هى أم لم تشعر للحظة أنها ليست ابنتها كسائر ابنائها. كانت حيرة الأب لا تقل عن حيرة زوجته ، إلا أنه كان يرى أنه قضاء لا مهرب منه ، و عندما جاء اليوم المحدد للجلسة امتنعت البهية بإصرار عن الحضور ، فما كان من المحكمة إلا ان قضت بالزامها بتسليم الطفلة الى أمها الحقيقية. وبالفعل جاءت قوة من القسم لاصطحاب الطفلة لتترك الاسرة فى حالة يرثى لها. لم تنم البهية ليلتها و فى الصباح الباكر ارتدت ملابسها واتجهت نحو باب البيت ، أحس زوجها بحركة غير طبيعية فاستيقظ من نومه ليسأل زوجته بلهفة : إلى أين؟ قالت بإصرار ويقين : لن اعود بدونها، وقبل ان يعلق بكلمة ، كانت قد اتخذت طريقها الى الخارج بثبات وثقة. المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية