حُمَ الرجل .. تُوفى الرجل!! جملتان لا يعرفهما سوى طلاب الثانوية العامة الذين فوجئوا بهذا السؤال فى امتحان اللغة العربية العام الماضى، وكان المطلوب منهم إعراب كلمة الرجل فى الجملتين وهو سؤال تم احتسابه بدرجتين.. هل تعلمون ماذا تعنى درجتان لطالب ثانوية عامة، إنها يمكن أن تحول مستقبل طالب متميز فى الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياءمن مهندس أو طبيب إلى أى شئ آخر بعيداً عن تميزه .. فما الذى استفاده هؤلاء الطلاب من إجابة سؤال يحيطه اللبس وسوء الفهم سوى الألم النفسى لضياع آمالهم فى الالتحاق بكليات تناسب قدراتهم وطموحاتهم بسبب أسئلة عقيمة ليس آخرها هذا السؤال الذى لو طرحناه على نوابغ اللغة العربية لأخطأوا فى الإجابة عليه. والحديث عن مأساة الثانوية العامة هو جزء يسير من الحديث عن منظومة متكاملة من الفشل فى تطوير التعليم، فقد أصبحت مشكلة التعليم تتجاوز وجود طلبة بالمرحلة الاعدادية أوالثانوية لا يجيدون القراءة والكتابة بشكل سليم إلى وجود وزراء ومسئولين بل وقضاة يخطئون فى أبسط قواعد اللغة العربية ويحتاجون لتدريبات مكثفة لتعلم إجادة القراءة، ووجود أطباء يتسببون فى وفاة بعض المرضى لفشلهم فى تشخيص الأمراض أو التعامل بحرفية مع المرضى، ووجود العديد فى مناصب لا يستطيعون شغلها بالكفاءة المطلوبة، لقد فشل نظام التعليم فى توفير فرص للطالب لاختيار مجال دراسة يرتبط بقدراته ومهاراته التى يفضلها ويجيدها، وأصبحت الجامعات مفرخة لأجيال خاوية فكرياً وعلمياً وتراجع تصنيف جامعاتنا عالمياً وعربياً بسبب تعرضنا على مدار سنوات طويلة ماضية لعملية تجريف تام للتعليم وانحدار فى مستوى الطالب والمعلم على السواء. وإذا حاولنا تقييم التعليم فى مصر فى مراحله الثلاث نجد أنه فى المرحلة الابتدائية عبارة عن وسيلة للعقاب الجماعى نفسياً وجسدياً لتلاميذ تسرق منهم فرحة الطفولة من خلال مناهج بالية ، واقتصرت حياة الطفل الذى هو فى أمس الحاجة للعب والمرح والتعلم، على أسلوب واحد من المعرفة يعتمد فى الغالب على التلقين والحفظ على حساب الفهم وبناء الشخصية، أما فى المرحلتين الاعدادية والثانوية فقد تحولت العملية التعليمية إلى عملية ابتزاز علنى للأسرة المصرية تصل لمنتهاها فى الثانوية العامة . لم تعد الثانوية العامة عنق الزجاجة للأسرة والطالب فقط ولكنها أصبحت عنق الزجاجة للبلد كلها، فقد اتجهت ميزانية معظم الأسر المصرية لتصب فى جيوب أباطرة التعليم الثانوى، وقليل من التأمل لهذه المنظومة العجيبة المسماة ب "السناتر" يجعلك تتعجب وتتساءل ما الذى حول فصول مدارسنا الثانوية إلى فصول يسكنها الأشباح فى حين امتلأت السناتر والمراكز التعليمية بمئات الطلبة المكدسين فى قاعة محاضرات بالإضافة لغيرهم ممن قد تضطرهم الظروف للاستماع لشرح المدرس من خلال البروجيكتور فى غرفة مجاورة لغرفة الشرح.. فالطالب هو نفس الطالب الذى يرفض حضور الحصص بالمدرسة والمدرس هو نفس المدرس الذى يُعرض عن الشرح بضمير فى المدرسة، فكيف اجتمعا من جديد فى تراض تام بعد دفع المقابل؟ فى عام 2006 صدر قرار جمهورى بإنشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم، هدفها الأساسي هو الارتقاء بمستوى جودة التعليم وتطويره المستمر واعتماد المؤسسات التعليمية وفقاً لمعايير قومية تتسم بالشفافية وتتلاءم مع المعايير القياسية الدولية لهيكلة ونظم وموارد وأخلاقيات العملية التعليمية والبحث العلمى والخدمات المجتمعية والبيئية، وكسب ثقة المجتمع فى مخرجاتها لتحقيق الميزة التنافسية محلياً وإقليمياً ودولياً، ودعم خطط التنمية القومية الشاملة، واليوم وبعد عشر سنوات من تأسيس هذه الهيئة هل لنا أن نسأل ماذا تحقق من تلك الأهداف، وهل قدمت بالفعل دعماً وتدريباً مناسباً للقائمين على العملية التعليمية؟ وإذا كانت تقوم بدورها على الوجه الأمثل فمن المسئول عن تراجع مصر إلى المرتبة قبل الأخيرة ضمن 140 دولة فى تقرير التنافسية فى مجال التعليم لعامى 2015/2016 وهو التقرير الذى يتم وضعه بناء على مجموعة من المعايير تتضمن البنية الأساسية والتحتية للمؤسسات ومعززات الكفاءة والتدريب وحجم السوق والاستعداد التكنولوجى والابداع، بالإضافة لعوامل التطور من خلال التعاون بين الصناعة ومؤسسات البحث العلمى وهى عناصر تفتقدها العملية التعليمية فى مصر، بل تفتقد أبسط المعايير الدولية التى تكفل للطفل الحق فى مساحة 1.6 متراً بالفصل. إن قضية تبسيط وتطوير المناهج بما يناسب عمر التلاميذ وبشكل يناسب تطور العصر ومتطلباته أصبحت ضرورة قومية لإخراج أجيال بعيدة عن الأمراض النفسية، قادرة على الابتكار والابداع، كما أن العودة للاهتمام بالأنشطة والرياضة وتطوير المواهب يخلق أجيالاً بعيدة عن التطرف محبة لنفسها وللوطن، أما مسألة رفع مرتبات المدرسين بما يضمن لهم حياة كريمة ويمنعهم من المتاجرة بالعلم عبر الدروس الخصوصية فقد صارت أمراً بالغ الأهمية مع ضرورة تزامن ذلك مع عودة نظام التفتيش الدورى الحقيقى على المدارس، والتدريب والتأهيل المستمر للمعلم بما يتناسب مع ما يتم وضعه من خطط تطوير حتى لا يصبح هذا التطوير مجرد حبراً على ورق.. أعلم أن مشاكل التعليم فى بلدى لن تحل بكتابة مقال أو طرح فكرة لكنها ستحل بوضع مشروع قومى متكامل للنهوض بالتعليميتضمن سياسات واضحة قابلة للتطبيق ومناسبة للواقع المصرى، نريد منظومة تعليمية تعلم الطفل الأخلاق والابتكار والتطوير وحب التعلم نريد أجيالاً تنتمى لعصرنا الحالى وتحلم للوطن، ليس ضرورياً أن يعتمد التعليم على تكنولوجيا متطورة مثل اليابان لكن يكفينا أن نأخذ عنهم أخلاق التعلم، أما أساليب التعليم والكيفية والكم والمناهج فهى عناصر يمكن الوصول إليها عن طريق الاستفادة من تجارب مشابهة لدول استطاعت من خلال تطوير التعليم أن تصنع تقدماً اقتصاديا واجتماعيا ملموساً.