ربما لم تكن مصادفة أن يكون موقع جامعة الدول العربية ملاصقاً لمسجد عمر مكرم الذي تتم فيه مراسم العزاء في المشاهير والشخصيات ذات التاريخ ، فلا شك أن ذلك سوف ييسر إجراءات أخذ العزاء في فقيد الأمة العربية الأشهر : " جامعة الدول العربية " .. لقد بح صوت عبد الناصر وهو يدعو إلي وحدة الأمة العربية ، وسعي بكل ما في طاقته وطاقة بلاده من أجل تحقيق هذا الأمل ، بينما كانت وسائل الإعلام المختلفة تعاير مصر بأنها تسمح لإسرائيل بالعبور من مضيق تيران ، وأنها تتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي بينما تتخفي خلف سور قوات الطوارئ الدولية ، حتي أتخذت مصر قراراتها الخاطئة وأعلنت منع إسرائيل من العبور من المضيق ، وطلبت سحب قوات الطوارئ الدولية …وكان ما كان … ولكن يبدو أن البعض لم يتعظ أو يتعلم ، أو كأن شيئاً في جيناتهم الوراثية يجعلهم يفضلون القعود في الصفوف الخلفية كي يتسلوا علي خلق الله الصامدين في الصفوف الأمامية ، وهكذا نرقص علي أنغام صهيونية دون أن ندري ، حتي نستيقظ ذات صباح لنكتشف أن الصهيونية كانت معنا علي الفراش طول الوقت !! .. من المؤلم علي النفس أن نشهد ذلك النقار والشجار غير المفهوم وغير المجدي داخل أروقة الجامعة ، في الوقت الذي تسيل فيه أزكي الدماء وأغلاها من ضحايا الأبرياء في المدن والقري العربية في فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا ، وهو غير مفهوم لأنه يفترض أن القائمين علي شئون الحكم في وطننا البائس لديهم قدر من الفطنة وبعض الذكاء لإدراك البديهيات علي الأقل ، ومن أهم هذه البديهيات أنه في الأوقات العصيبة ، وفي مواجهة الخطر الداهم لا ينشغل المرء بالنظر إلي المرآة كي يتأكد من حسن هندامه وحلاوة طلعته البهية . والمشكلة أن كل نظام عربي لا يري سوي نفسه ، فهو القائد والمعلم الذي يري المصلحة ولا يراها سواه ، بينما تغيب القيادة الحقيقية أو تتخفي ربما خوفاً من المواجهة أو إتقاء لخناجر الأصدقاء التي هي أمضي من رصاص الأعداء .. ولا يعني ذلك شهادة براءة مجانية لنظام معين أو مجموعة من الأنظمة العربية ، وإنما يعني ببساطة أن حساب النفس أو أي تقدير للموقف الداخلي يجب ألا يكون سلاحاً في يد العدو الذي كشف عن وجهه القبيح ، وربما تختلف وجهات النظر في المواجهة ، ولكن ذلك لا يستدعي بالضرورة أن نقف علي نواصينا الإعلامية كي نتبادل الشتائم والمعايرة . ولعل تاريخنا القريب يذكرنا بأولئك الذين شمتوا في هزيمة عبد الناصر ، كي يدركوا بعد ذلك أنهم كانوا أول المنهزمين بينما حملت الجماهير العربية في الخرطوم ناصراً علي الأعناق ، وحملته جماهير العواصم الأخري في القلوب ، ولقد قرأنا وسمعنا شهادات أولئك ، وفصل التاريخ فيما فعلوه ، وكان كله للأسف رقصاً علي أنغام صهيونية .. أن تبادل الإتهامات بين الدول العربية في ذلك التوقيت المفصلي يشبه توجيه الأسلحة القليلة التي نملكها في الإتجاه الخاطئ ، ويعني إنهاك لقوانا وتشتيت لإتجاه المجهود الرئيسي ، لذلك يجب أن يتنبه أولي الأمر في وسائل الإعلام ، وأولي الأمر في مجتمعاتنا العربية ، حتي لا يوغروا صدر الشامي علي المغربي ، بينما العدو يغرس خنجره في كل الصدور .. البعض يتحدث غامزاً في دولة الطوق التي لا تفتح معبرها ، ويتحدث البعض الآخر كذباً بإسم ملايين المتطوعين الجاهزين للإنقضاض فور فتح هذه الحدود ، وكأن الجهاد أو القتال يحتاج لتأشيرة كي يتم عبور الحدود ، أو كأن المسألة يمكن أن تتم بهذه العفوية الإنتحارية …نعم يجب دعم خيار المقاومة المسلحة ، وبحث الأسلوب الأمثل لذلك ، ولست أظن أن خططاً عسكرية تناقش علي الملأ يمكن أن تؤدي إلا إلي هزائم عسكرية محققة .. فإذا صدقت النية وصح العزم ، فلست أظن أن فتح الحدود سيكون بإذن أو بتأشيرة دخول .. البعض أيضاً يغمز في أهل البترول ، ويهلل صائحاً بإخراج سلاح البترول مرة أخري من غمده ، دون أن يكلف نفسه مشقة التأكد عما إذا كان هذا السلاح لا يزال سلاحاً أم أنه قد صدأ لأسباب نحن بعضها ، أو حتي يبحث بجهد علمي عما إذا كان هذا السلاح لا يزال معنا أم أنه قد يصبح ضدنا .. وأياً ما كان الأمر ، فما ينطبق علي مسألة فتح الحدود ينطبق هنا أيضاً ، فإذا كان البترول بالفعل سلاحاً ، فلا يصح مناقشة خطط إستخدامه علي الملأ ، بل من خلال خطة متكاملة العناصر يكون هو أحد عناصرها وليس عنصرها الوحيد .. وربما نتفق أو نختلف حول بعض ما يرد في بعض الملاسنات الإعلامية ، ولكن ما ينبغي أن نتفق عليه جميعاً هو ألا يتحول الحوار إلي خناقة ، وألا نغرق في قطريتنا بالشكل الذي يفقدنا الرؤية الصحيحة للمصالح القومية العليا … ولننظر إلي إسرائيل وأشياعها في عواصم العالم المختلفة ، وهم يمثلون بشكل ما تجمعات شبه قطرية لليهود في العالم ، ولسوف نجد كل هذه التجمعات وكأنها تعزف من نوتة موسيقية واحدة .. أما إذا أصر أصحاب الجلالة والفخامة والسعادة رؤساء وملوك وأمراء العرب علي مواصلة العزف النشاز حيث يحضر كل مندوب إلي القاهرة ومعه نوتته كي يغني منها ، فعلي أمين عام الجامعة أن يرسل في خطاب دعوة الإجتماع القادم الإشارة إلي أن الحضور بملابس الجنازات والكرافتة السوداء ، وينعقد الإجتماع في " عمر مكرم " !! ------------- مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية