سافرت لحضور مؤتمر فى مكتبة الأسكندرية. ومثل كل مرة، حين تدخل المدينة بأى وسيلة مواصلات تظل عيناك تقطع الشوارع فى لهفة لتواجه البحر، وتشعر ببهجة عجيبة ترجعك لكل مرات سعادتك فيها. مدينة لايمكن أن تفلت من حبها حتى ولو أزعجتك ببعض أمورها. حين أنزلها أجد أغنية محمد الحلو فى تتر مسلسل زيزينيا تلاحق أذنىّ بالعود والكمان الذين يٌحضران سيد درويش والماندولين الذى يجلب روائح أثينية أصيلة، لا تتركنى حتى أغنيها : إسكندرية تانى..وآه م العشق يانى..والرمل الزعفرانى ع الشط الكهرمانى، والسحر اللى احتويته والبحر اللى احتوانى والبحر بألف موجة والموجة بألف حالة" لكن الأسكندرية الجميلة تتراجع أمام القبح الذى أصاب حياتنا بأيدينا، فلا زعفرانى ولا كهرمانى، فالمدينة تتغير ملامحها تحت وطأة ما نخرجه منا: صرف صحى يٌلقى به فى البحر، قمامة يٌلقى بها فى البر، لافتات مرشحين تغطى المبانى أو عواميد النور وأحيانا لافتات الطريق! فى طفولتى أتذكر لون بحرها، تركوازى ، واتذكر رائحة اليود على الكورنيش، لايخفى على أحد أن بحرها أصبح رمادياً وأن رائحة اليود لاتكاد تبين فى معظم الأحيان من رائحة المجارى وأن المدينة الجميلة تفقد أجمل مافيها تحت فضلات من فيها. لايخفى على أحد أن المدينة تستقبلك من بوابتها على الطريق الصحراوى بوجه عجيب أفقدها هويتها وأصبح يعبرعن وقت خلا من الثقافة والجمال. اسكندرية هى البندر الأكبر فى طفولتى وبداية شبابى قبل ان أترك بلدتى لأسكن القاهرة، هى المكان الذى كنت أقصده للتعلم الإضافى فى المجلس الثقافى البريطانى والمركز الأمريكى، وكنت أقطع شوارعها للمحطة وحقيبتى على ظهرى وأتوقف لشراء شرائط الموسيقى الكلاسيكية التى كانت تٌباع مع السيجار والعطور! "وانا المغرم صبابا .. بإسكندرية يابا..وفكرة كوني أنسى .. في حكم الإستحالة" "هو المحافظ الجديد مش عامل شغل؟" " آه بيشيل بياعين محطة الرمل ولسه مراته بتحضر إجتماعاته!" " حديقة انطونيادس بقت خرابة ومقر للبلطجية" " فين رجال أعمالها ليه مش بيقوموا بيها؟ ده حتى مشاكلها أقل من القاهرة!" " أنا لقيت بق فى السرير، فى فندق عريق ، فنادق محطة الرمل دى كانت أفخم فنادق زمان، إتدهور الحال من عشر سنين!" " أهل إسكندرية بيصيفوا فى مطروح والساحل، البلد مابقاش يتقعد فيها" " إسكندرية شالت كتير قوى يرضى مين؟" وكثير من التعليقات التى تقطع رأسى وانا أكتب عن الأسكندرية مثل أغنية الحلو تماما: " وسمعت صوت النديم نسايم ...ع البحرصابحة والبحر هايم... وسمعت سيد بيقول يا مصرى... الدنيا صاحية ليه انت نايم ؟" وكيف نجد الجمال حولنا وقد ضيعناه وأضاعوه فينا؟ وهل يصح ان نبحث عنه أم نطعم الجوعى ونعالج المرضى؟ أشد نفساً عميقاً من أمام البحر وانا أراقب الصيادين فى قلب البحر، وأحاول أن أتذكر طعم الهواء سابقاً وأدندن "ويبات فى حالة ..يصبح فى حالة ...وكونه ينسى... دى إستحالة" المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية