الائتلاف المصري لحقوق الإنسان يصدر ورقة تحليلية شاملة حول أيام الترشح لانتخابات البرلمان    الدكتور مجدى يعقوب للقاهرة الإخبارية: منتدى أسوان منصة سلام وتنمية لإفريقيا    الأمين العام الجديد لمجلس الشيوخ يعقد اجتماعا لبحث آليات العمل    طب قصر العيني توصي بدمج الذكاء الاصطناعي في التعليم الطبي    وزير الزراعة: 7.5 مليون طن صادرات مصر من المنتجات الطازجة والمصنعة    وزير الاستثمار يبحث مع شركة «بوينغ» تعزيز الشراكة الاستراتيجية في قطاع الطيران    توم باراك: نزع سلاح حزب الله مفتاح سلام وازدهار لبنان    بعد وقفها أمس .. إسرائيل تفتح معبري كرم أبو سالم وكيسوفيم لاستئناف إدخال المساعدات لغزة    رسميا، جراهام بوار مديرا فنيا لمنتخب السويد    وزارة الرياضة : ننسق مع اللجنة الأولمبية واتحاد تنس الطاولة لمتابعة تطورات وتحقيقات الأزمة بين لاعبين ببطولة أفريقيا    مصرع شخصين وإصابة 9 آخرين في حادث تصادم بالشرقية    غلق 4 منشآت مخالفة في حملة للعلاج الحر بالإسماعيلية    لأول مرة منذ أكثر من 100 عام، فتح قاعات متحف التحرير بدون عرض آثار توت عنخ آمون    من أجدع الناس، هاني عادل ينعى والدة أمير عيد بكلمات مؤثرة    فى احتفالية 50 سنة على مشوارها الفنى..نجيب وسميح ساويرس يقبلان يد يسرا    هيئة الدواء تحذر من تداول عبوات مغشوشة من دواء "Clavimox" مضاد حيوي للأطفال    تشغيل 6 أتوبيسات جديدة في الإسكندرية لتسيير حركة المرور بأوقات الذروة    تقييم صلاح أمام مانشستر يونايتد من الصحف الإنجليزية    بعد تحريك أسعار الوقود| جدل حول ارتفاع أسعار الخضروات والفاكهة وتأكيدات بوفرة المعروض    مباريات اليوم الإثنين 20 أكتوبر 2025.. مواجهات نارية في دوري أبطال آسيا والدوريات الأوروبية    الأرصاد تحذر من طقس الساعات المقبلة: الحرارة تصل إلى 38 درجة    رئيس «الرعاية الصحية» يفتتح البرنامج التدريبي للقيادات الوسطى بالأكاديمية الوطنية للتدريب    وزير العمل: القانون الجديد يحقق التوازن بين طرفي العملية الإنتاجية    وزير الخارجية يلتقي المديرة التنفيذية لوكالة الاتحاد الأفريقي    قتيلان بحادث اصطدام طائرة شحن بمركبة أرضية في هونج كونج    حادث مروع على طريق أسيوط الغربي بالفيوم:.. إصابة 7 أشخاص في انقلاب سيارة سوزوكي    مراقب مزلقان ينقذ سيدة من الموت أسفل عجلات قطار في المنيا    إبعاد «يمني» خارج البلاد لأسباب تتعلق بالصالح العام    20 أكتوبر.. عندما وقفت الشرطة المصرية فى وجه الإرهاب بالواحات    تراجع سعر الدولار أمام الجنيه في بداية تعاملات اليوم 20 أكتوبر 2025    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الاثنين 20 أكتوبر 2025    باستثمارات تتجاوز 65 مليون دولار رئيس اقتصادية قناة السويس يشهد توقيع عقود 4 مشروعات جديدة بالمنطقة الصناعية بالسخنة    أمسية ثرية فى مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية 33 : أمير الغناء هانى شاكر يسرد قصص الغرام والشجن    أول ظهور تلفزيوني بعد الزفاف.. هشام جمال وليلى زاهر يكشفان تفاصيل الزواج    محافظ قنا يفتتح محطة مياه العيايشا المدمجة بعد إحلالها بتكلفة 20 مليون جنيه    في زيارة مفاجئة.. وكيل صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى الشيخ زويد    «الصحة» تنصح بتناول أطعمة غذائية متنوعة لإمداد الجسم بالطاقة    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 20 أكتوبر 2025 في بورسعيد    نائب محافظ الجيزة: إعادة إحياء نزلة السمان جزء من خطة تطوير المنطقة المحيطة بالمتحف الكبير    بعد 30 عامًا من النجاح.. عمر رياض يعلن التحضير لجزء جديد من "لن أعيش في جلباب أبي"    تهديد لأصحاب المعاشات| مسئول يعلق علي رفع أسعار الوقود ويطالب برفع الحد الأدنى للأجور ل 9 ألاف جنيه    محاولة اغتيال ترامب| أمريكا تحقق في واقعة استهداف طائرته الرئاسية    فوز رودريجو باز في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة ببوليفيا    وزير الصحة يبحث خطة تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل في المنيا    نحافة مقلقة أم رشاقة زائدة؟.. الجدل يشتعل حول إطلالات هدى المفتي وتارا عماد في مهرجان الجونة    التاريخ ويتوج بكأس العالم للشباب    الأهلي يحصل على توقيع صفقة جديدة.. إعلامي يكشف    صححوا مفاهيم أبنائكم عن أن حب الوطن فرض    ولي العهد السعودي وماكرون يناقشان جهود إحلال الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط    ملخص وأهداف مباراة المغرب والأرجنتين في نهائي كأس العالم للشباب    هل ينتقل رمضان صبحي إلى الزمالك؟.. رد حاسم من بيراميدز    ميلان يقفز لقمة الدوري الإيطالي من بوابة فيورنتينا    د. أمل قنديل تكتب: السلوكيات والوعي الثقافي    6 أبراج «نجمهم ساطع».. غامضون يملكون سحرا خاصا وطاقتهم مفعمة بالحيوية    ثقافة إطسا تنظم ندوة بعنوان "الدروس المستفادة من حرب أكتوبر".. صور    سهام فودة تكتب: اللعب بالنار    ميلاد هلال شهر رجب 2025.. موعد غرة رجب 1447 هجريًا فلكيًا يوم الأحد 21 ديسمبر    هل زكاة الزروع على المستأجر أم المؤجر؟ عضو «الأزهر العالمي للفتوى» توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. منى النموري تكتب : حين بدأ الجهاد الأكبر فى مِنى!
نشر في المشهد يوم 04 - 10 - 2015

كيف يكون المسلمون أكثر أهل الأرض غوغائية ولديهم قرآن ورسول كريم مثل محمد؟
مهندس مصري قام بتغيير خريطة منى بعد تدافع 2005 ليمنع لقاء الأمواج البشرية
كنت قبيل الظهيرة فى فندقنا فى مكة أول أيام العيد نستعد لصلاة الظهر والتحرك لمِنى حين فاجأتنا الاتصالات والرسائل من الأهل فى مصر يسألون عنا، ألف من القتلى وربما مثلهم من المصابين فى حادث تدافع بمِنى!
فى صباح ذلك اليوم، العاشر من ذى الحجة، كنت شبة مستيقظة منذ يومين كاملين حين أحرمت من المدينة المنورة فى صباح الثامن من الشهر، وقمت بعمل مناسك العمرة من طواف وسعى، وبت فى عرفات ما بين صلاة وذكر حتى مغرب اليوم التالى، وقضيت ثلثى الليل فى المزدلفة وتعطل بنا الأتوبيس هناك لنمشى مسافة كيلومترين لنلحق بأتوبيس آخر، ثم عدت لمكة لعمل طواف الإفاضة قرب الفجر كى أتحلل من إحرامى التحلل الأصغر، وأجلت رمى الجمرات طبقاً لرأى رئيس الحملة لعصر أول أيام العيد. تحت كل هذا الضغط الجسدى والنفسى لم أستوعب خبر التدافع لا بعقلى ولا بقلبى، يبدو أننى لم أستوعبه على الإطلاق، كنت مثل طائرة على الممرتستعد للإقلاع لجزء جديد من المناسك، بطيار أتوماتيكى!
فى الطريق لمِنى كانت أصوات زوجى وأخى والشيوخ الأفاضل الذين ألقوا علينا دروساً فى المناسك تخترق اذنى فى حوار داخلى بين تلبية الحجيج المتقطعة فى الأتوبيس:
" كل مناسك الحج سهلة، طواف وسعى العمرة للمتمتع والقارن ووقفة عرفات ثم طواف الإفاضة، رمى الجمرات ممكن توكلى عنك حد! أهم شيء عرفات، الحج عرفة كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، خلصى عرفة، حافظى على إحرامك بقدر الإمكان واللى ماتقدريش عليه تدبحى فدو له فوراً. الدين يٌسر لا عسر."
لم أفتقد زوجى فى لحظة مثل إفتقادى له فى الحج، بالفعل الحج جهاد المرأة، ويخفف عنها وجود من يرشدها ويحميها ويسهر عليها وسط كل الجموع مهما بلغت رفاهية حملتها.
" لارفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج..ده أهم شئ يا حبيبتى..الصبر ثم الصبر ثم الصبر..لن يكون كل الحجاج فى إنسانيتك ونظامك..توقعى كل شيء، وكل إبتلاء هو إختبار جديد لمسألة الصبر..الحكمة كلها قد تتلخص فى إرساء فضيلتين .الصبر والتسليم لقضاء الله.حين تعودين سينتهى الجهاد الأصغر ويبدا الجهاد الأكبر..تذكرى، لارفث .لافسوق..لاجدال فى الحج..الصبر الصبر الصبر"
كانت هذه رسالة أخى الأكبر الذى ظل يكررها كل يوم قبل وأثناء الحج، وكانه يؤهلنى لما سأقابل.
حين بدأ الجهاد الأكبر في منى
حين بدأ الجهاد الأكبر في منى
زحام وتدافع وصبر
كل يوم كانت تواجهنا صعاب مختلفة من تأخر طيران أو إضطراب فى المواعيد او وسائل المواصلات من مكان لآخر، وكنت أتذكر كلام أخى وأقول الحمدلله انه قال لى، فقد صبرتنى كلماته حين واجهتنى جموع الأجساد فى روضة رسول الله، وتعجبت من سلوك السيدات اللاتى دخلن للصلاة والدعاء وكان طريق بعضهن للرسول هو التدافع والتزاحم بينما مراقبات الحرم النبوى بٌحت أصواتهن طلباً للنظام. حين أفقدنى الزحام جلال لقاء الرسول تساءلت، إن كان هذا فى حضرة الحبيب وفى مكان تحيطه مراقبات الحرم بكل حزم، وفى عدد محدود من النساء، كيف سيكون الوضع فى مِنى على كثرة حوادثها التاريخية؟
"مهندس مصرى قام بتغيير خريطة مِنى بعد حادث 2005، قام بتصميم طرق فوق بعضها بحيث لا يصطدم رماة بآخرين، من يصعد للجمرة يرمى وينزل من طريق آخر، لايعود من نفس الطريق"
طماننا شيخ الحملة الشيخ أحمد صبرى بكلامه، وإشرأبت أعناقنا حين سمعنا بالمهندس المصرى، ولادة يا مصر طول عمرك، الحمد لله رب العالمين.
" أتمنى ان تتعاون دور الإفتاء وشركات السياحة مع إدارة الحج السعودية لتقليل عدد رماة الجمرات دفعاً للضرر مما يعنى فى رأيى أن يوكل النساء والأطفال والشيوخ الشباب للرمى بطريقة منظمة، ففى دفع البلاء فائدة اعظم من الرمى وأجل."
كان هذا شيخنا المستنير سعد الدين الهلالى الذى ألقى علينا آخر محاضرة إعداد للحج فى المدينة ووجدنا فى رأيه الكثير من العقل والبصيرة وبٌعد النظر. لِم لم يتم التعجيل بمثل هذه الفتاوى الرشيدة؟
"لبيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك..يارب ما هى مشكلة المسلمين؟ عن جد يارب، أناجيك وحدى وأنا وسط الناس، ِلم هم أكثر أهل الأرض جهلاً وغوغائية ورسولنا كان مثالاً للنور والعلم والنظام؟ هل هى مؤامرة الغرب القديمة منذ العصور الوسطى ضد الإسلام؟ هل هو الجهل؟ هل هو الفقر؟ هل هو الإتجار بالدين؟ هل هو تقصير من المستنيرين فى تنوير من حولهم؟ فى كل مكان منذ بدأت الرحلة وأنا يفزعنى التزاحم والتدافع، فى الروضة الشريفة، فى الطواف، فى السعى. لِم يعجز الحجيج فى كثير من الأحيان عن الإلتزام بقواعد السلامة المنطقية؟ أبسطها أن الكراسى المتحركة لها أماكن خاصة للطواف وللسعى، ومع هذا تسعى الكراسى وفوقها أصحابها فى اماكن المشاة ويمشى الناس فى اماكن الكراسى! بهذه البساطة المفزعة!"
خلع كتفى وبكى أمام الكعبة !!
كنت أناجى ربى وأنا أتحسس كتفى المخلوع ألماً من رجل افريقى دفع بى ناحية جدار الكعبة أثناء طواف الإفاضة فى الليلة السابقة، وبعد أن فعل ودون أن يعتذر أخذ يمسح بإزاره جدار الكعبة ويبكى!
" تلاقيهم إيران، ماهى كل سنة تحب تعمل كارثة علشان تحرج السعودية كده!"
" ياجماعة المملكة فى حالة حرب وقوات الجيش المدربة اللى كانت عادة بتأمن موسم الحج على الحدود. الطبيعى إن اللى موجود أقل كفاءة وممكن تكون لخبطة حركة السير هى اللى سببت الكارثة دى!
" بيقولوا ده موكب أميرى اللى قفل الطريق من ناحية وكربس الناس فوق بعضيها."
أحسن أهه من أعمالكم سٌلط عليكم، اللى بتعمله السعودية فى اليمن وسوريا مش شوية! "
" سلوك الحٌجاج برضه زبالة، كل واحد يقول لك نفسى وحٌرمتى والباقى يولع، حتى فى الطواف، كل واحد فارد لى دراعاته وكيعانه حوالين مراته تقولش جينيفير لوبيز الحرم!"
"مانلبى أحسن يا حجاج! لبيك اللهم لبيك..."
وضعت القناع الصحى على فمى، لا لدواعى صحية وإنما لأٌذكر نفسى أنه لاجدال! وددت لو صرخت فى كل هذه الأصوات لتصمت وفى تلك العجلة الطاحنة التى أدور فيها منذ بدأت لتتوقف برهة. أغرقتنى دموعى.
"حبيبتى لارفث ولا فسوق ولاجدال..الصبر..الصبر..الصبر!"
حاضر يا أخى..الصبر الصبر..الصبر..سأصبر.لكن ألم يقل الرسول أن زوال الكعبة عند الله أهون من إراقة دم مسلم؟ لم التدافع؟ ألا يتعلم الحجيج شيئاً مع المناسك؟ وكيف تدخل السياسة فى هذا الوقت الروحانى؟ أين هى الحقيقة؟"
ألقى بنا الأتوبيس على أول مِنى..مشينا مايقرب من ساعة كاملة حتى وصلنا للجمرة الكبرى التى تمثل إبليس الكبير.هذا المنسك إحياءً لسنة نبينا إبراهيم حين جاءه إبليس متمثلاُ فى صورة رجل يثنيه عن الإمتثال لأمر ربه فى ذبح إبنه فعرفه على الفور ورجمه بالحصى. كان حادث الصباح قد منع الكثير من الحجاج من التوافد فأصبح المكان شبه خال. رمينا بسهولة وأكملنا الطريق للمخيم الذى كان فى شارع 206 بالقرب من شارع 204 حيث حدثت الكارثة.
نظرت إلى وجوه صويحباتى فى المخيم. جزء من عقلى كان غير مصدق أننا نأكل ونتكلم ونضحك وكارثة مثل هذه حدثت على بعد أمتارمنذ ساعات، بل وحتى العصر حين وصلنا كانت بعض الجثث لاتزال هناك.وجزء من عقلى كان يدرك أنه لابد من الأكل والشرب والكلام ومواصلة المناسك، فلا تدرى نفس ماذا تكسب غداً ولاتدرى نفس بأى أرض تموت ولافائدة من نشر الغم فى وقت نتلمس فيه رحمة الله. لكن حين بدأ بعض الكلام عن حرمة تدخين المرأة فى مِنى، وبدأت ألحظ بعض التذمر الهادئ حول حاجّة مدخنة بدعوى أن الملائكة تتأذى من رائحة السجائر كان هذا فوق إحتمالى النفسى بالفعل. كان لابد وأن تخرسنا الكارثة عن أى تساؤلات أو مطالب أو نشاطات غير الصمت العميق إجلالاً لضعفنا ولمن راحوا. لكننا لم نفعل، بل وبدأنا ننظر إلى عادات بعضنا البعض نظرة دونية وكأن من حقنا أن نحكم على بعضنا البعض. من أين جئنا بهذه الطاقة يومها؟
"حبيبتى لارفث ولا فسوق ولاجدال..الصبر..الصبر..الصبر!"
حاضر يا أخى لكن قل لى فقط، لماذا تتأذى الملائكة من سجائر الحاجة ولا تتأذى من سجائر الحاج؟ وهل هذا وقته؟ يا أخى التدخين كله حرام، لكننا لن نطالب مدخن منتظم بالإقلاع فى أيام صعبة مثل هذه، أقصى ما نستطيع ان نفعله أن ندعو له\لها، وننصحه بالحسنى دون إشعاره او إشعارها بالإقصاء! لا تبقى سوى يد الرحمة نمدها لبعضنا البعض.
مسح أخى دموعى فى خيالى وهمس فى أذنى " الصبر."
حين بدأ الجهاد الأكبر في منى
حين بدأ الجهاد الأكبر في منى
أمواج بشرية ودهس وفزع
بعد منتصف الليل، مشينا ساعة ونصف إلى الأتوبيس للعودة إلى الفندق. كان هناك من قرروا المبيت، وكنت ممن فضلوا العودة. فى الليل كانت أعداد الرماة قد بدأت فى الإزدياد بشكل عظيم، حتى أننا توقفنا عشرات المرات لنضم المجموعة مع بعضها البعض خوفاً من التوهان. ما أيسر الضياع فى مكان مثل مِنى! وما أسهله وأفزعه ليلا! فجاة تجد نفسك داخل مجموعات بشرية بالمئات، قد تسحبك معها مثل موجة إلى مكان لاتود الذهاب إليه ولا تعرفه. بدأت أفهم كيف قد يحدث التدافع، فلو كان من السهل أن تبتلعنى الموجة البشرية من الأجساد فى وقت عادى ، فهى كفيلة إذن بإيقاعى أرضا ودهسى عدة مرات لو حدث هذا فى شارع ضيق،وهو بالضبط ماحدث فى شارع 204. ولو زدنا على هذا الحر والفزع الذى يدفع الناس للركض فوق أبناءهم خوفاً على حياتهم، وكراسى المقعدين التى تخترق الأجسام بقسوة الحديد ينحل لغز التدافع بسهولة.
" والعساكر برضه مخهم تخين! إنتى مش شفتى النهارده لما كانوا قافلين بوابة السلم الكهربائى اللى وفرت علينا كام كيلو مشى علشان ننزل من عند إبليس؟ فتحوها بعد ما ريس المجموعة كلمهم كلمتين. بيفتحوا البوابات بمزاجهم ويقفلوها بمزاجهم! هو إنتى إتصورتى سيلفى مع إبليس؟"
"الصبر.."
حاضر
لماذا تخيلت أن هناك إدارة تراقب كل شيء بالشاشات الإلكترونية؟ وأن كل عسكرى معه جهاز إرسال وإستقبال يتبع قيادة وفوقها قيادة أخرى وأن كل شيئ يحدث طبقاً لخطة ازمات؟ ولماذا تخيلت انه من السهل لصق إسورة مغناطيسية تحمل بيانات كل حاج، لاتتأثر بالماء ولا الحرارة، بالضغط عليها تظهر كل بيانات الحاج. المنطق الوحيد يقول أن مِنى مكان تجمٌع ثلاثة ملايين شخص فى إطار عدة كيلومترات، أى هو مكان أزمة، وأن أموال المملكة الطائلة كان لابد وان تنعكس فى صورة تكنولوجيا وهمية على غرار تكنولوجيا الأفلام الأمريكية؟ ألا يكفى اننا نسير فعلياً فى مقلب قمامة فى الشوارع؟ هل هذا سلوك الحجيج أم تقصير المملكة؟ أين الحقيقة؟
" قلنا لاجدال!"
" يا أخى أنا أكلم نفسى أو اكلمك! سأجن لو لم أبوح بما يجيش به صدرى"
"هذا جدال!"
وماذا تسمى سلوك الحجيج إذن؟ التدافع والتزاحم على الرمى بينما من المؤكد سيبيت الجميع فى مِنى؟ والتمسح بجدران الكعبة او التدافع لتقبيل الحجر الأسود وهو مجرد حجر؟ هل هذا من الرفث؟ لا. من الفسوق؟ لا. من الجدال؟ ربما. هل هو جدال جسمانى؟ لماذا لم ينهنا الله عن الإيذاء فى الحج؟ أين الشيوخ والدعاة والمفتون؟
" جدال مع الخالق! قلنا الصبر!
" قلنا حاضر "
حاضرمن وسط الدموع ومن بين التساؤلات وتحت وطأة إجهاد يضرب رجلىّ وكتفىّ ورأسى هى الجحيم بعينه. فى غرفتى التى تطل على الكعبة جلست أراقب حركة الطواف فى صمت. الطواف عكس عقارب الساعة وكل الحركة الدائرية النافعة فى الحياة عكس عقارب الساعة،كل لفة زيادةإلا الدوامة فهى مع عقارب الساعة ولهذا تنتهى بالموت والوقت نفسه ، مع كل لفة عقارب نقترب من النهاية ،كل لفة نقص.لكن اليقين بفناء الحياة والفرحة بالشهادة لايبرران سوء الترتيب أويسامحان التهاون فى المؤامرة إن وٌجِدت. كنت أود أن أنزل لأتوه وسط الطائفين وأنسى نفسى وأنسى من ماتوا. كنت غاضبة لا أعلم ممن على وجه التحديد. ربما من نفسى أننى لازلت أبصر وأسمع وأفكر وعلى قدمى وهم إنتهت حيواتهم تحت الأقدام. وربما كنت أغبط نهايتهم الشريفة وقد ماتوا بلا ذنب كيوم ولدتهم أمهاتهم بينما لا أعلم كيف ستكون نهايتى أين ستلاقينى فتنتى؟ وربما كنت أشعر بالعار والخزى أننى مسلمة وانا أعلم كيف سيبدو الأمر للغرب وكأن المسلمين قطعان من الثيران تتناطح ولا تفقه شيئاً. كانت نفسى مثل أمواج الأجساد تتدافع فى كل إتجاه وتدهس طاقتى على التفكير مع تدافعها فى كل لحظة.
" الصبر..الحج جهاد المرأة!"
فى اليوم الحادى عشر من ذى الحجة تعذر علىّ الخروج إلى مِنى. عصتنى قدماى وعصانى جسدى. وتعذر دخول الأتوبيسات إلى أى مكان قريب من الفندق. إنتابنى شعور أن الوضع بدأ يتفكك من الناحية الإدارية فى منطقة الحرم حيث زاد الزحام لأقصى درجة، فاليوم ثانى أيام العيد وغالبية أهل جدة والمناطق المجاورة يأتون لمكة فى العيد.
" كنت أتصور أن المملكة ستحد من تواجد الناس فى منطقة الحرم فى وسط هذا الإزدحام! خاصة بعدما حدث فى هذا الموسم من كوارث!"
" لاجدال..لاجداااااال!"
" لكن انا تحللت من إحرامى خلاص! "
" تتوهمين لو تصورتى ان الأمر ينتهى عند التحلل من الأحرام..القصد كان وضع الحاج أمام أسلوب حياة، إختبار عسير لو مر به ونواه كبداية قدر ما إستطاع يفوز بالجنة"
موت بحجة عدم الجدال
" لا نفند الأشياء إذن ولا نحاول التغيير ولا الإصلاح بدعوى عدم الجدال؟ نترك الناس يموتون كل عام دهساً فى أشرف بقعة وفى اجمل حدث إسلامى ونصبح " فٌرجة" العالم المتحضر كله وتقول لى لاجدال؟ نهتم بالشكليات وبرفع الأصوات بالدعاء حتى تكاد الحناجر تتقطع عند الكعبة وندهس بعضنا بعضاً وتقول لاجدال؟ تكسب المملكة مليارات الدولارات ومعها هيبة العالم الإسلامى كله وتتقاعس عن الترتيب المحكم و تسخير كل وسائل التكنولوجيا لحماية الحجيج وتقول لى لا جدال؟"
" للحقيقة ألف وجه"
نزلت لطواف الوداع بعد أن وكلت عنى من يرمى بقية الجمرات فى مِنى. فى الطواف تهت داخل نفسى أردد يا رحمن يارحيم ياودود يارؤوف، كنت أنادى بلا طلب محدد بينما قلبى يطلب بعض السكينة، الفهم. لم هم راحوا ونحن بقينا؟ ولم لم يكن بإمكاننا أن ننقذ أحداً منهم؟ كانت روايات الناجين من الزحام مثل كربات يوم القيامة، وصعوبة الإنقاذ والدخول إلى مكان التدافع دون القضاء على المزيد من الأرواح أمر شبه مستحيل.
فى اليوم الثانى عشر من ذى الحجة تحرك اتوبيسنا من مكة إلى جدة للسفر. أخطأ السائق الطريق فوجدنا أنفسنا مرة اخرى فى مِنى بعد أن إنفض مولدها. كانت الرائحة فوقها لاتطاق، ظلت عالقة فى الأتوبيس أكثر من نصف ساعة، شاهدت أكوام القمامة فى كل مكان وفلول الحجاج النازحين منها. على الفور هبطت فوق الصورة صور الحجيج النافقين تحت الأقدام ممن رأيتهم فى الصور، وممن رأيتهم تحت الكوبرى مكفنين فى إزاراتهم البيضاء عند العصر. مِنى التى خصها الله بذكره فى أيام معدودات صارت مسرحاً للحزن، حزن على ما نفعل بعضنا ببعض، حزن على سوء التنظيم، حزن على الغباء، حزن على سياسة قذرة تشعل المنطقة حروباً لم تعد أبداً بعيدة عنا.
" تتذكرين فيلم صمت الحملان؟ حين ظلت البطلة مٌعذبة بأصوات الحِملان المذبوحة حتى أنقذت بنتاً من يد السفاح فى النهاية؟ إفعلى مثلها! إفعلى فى صمت وفى صبر!"
نظرت إلى أخى بعين قلبى فى تعب.إنتهى الجهاد الأصغر وبدأ الجهاد الأكبر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.