إن لم تقدر على مناقشة الرأى فهاجم القائل... ذلك هو النهج السائد في غياب العقل والمنطق وحضور الفهاهة والحمق، والنتيجة غثاء وتفاهة وضياع وقت وطاقة. شاء قدري أن أطالع تلك المعركة التي فجرتها كلمات لسيدة تهاجم فكرة الأضحية وتصفها بالمذبحة، وماتلاها من ردود غاضبة، أو لاعنة من طرف، وأخرى مدافعة، أو مفسرة من طرف آخر. قادني الفضول إلى قراءة ما كتبته السيدة على صفحتها، ووجدته كلاما ورد كثيرا على لسان ملاحدة أو علمانيين من قبل، وليس فيه الكثير من الابتكار، لكنه لا يخلو من براعة لفظية وأسلوبية. إلى هنا والأمر عادي، لكن تلك الكلمات أنتجت صفحات من الهجوم والدفاع الهجومي أحيانا والهمجي أحيانا أخرى. أعادتني تلك "الهوجة" إلى قناعة قديمة لدي، وهي أننا نصطنع الخلاف دون أن نجيده. كان البيان "الفيسبوكي" الذي أصدرته السيدة نموذجا للفشل في الاختلاف والنقاش الصحي، والأسوأ من ذلك أنه كان مجرد منطق "الرنجة الحمراء" الذي صارت مصر له أرضاً وصار الوقت له موسماً! الأصل في التسمية ما كان يفعله المزارعون الإنجليز قديما لتضليل الذئاب وإبعادها عن التهام الخراف، فكانوا يضعون على أطراف الحقول رنجة حمراء نفاذة الرائحة، لتظل الذئاب باحثة عنها وملهية عن هدفها الأصلي، فلا هي تصل إلى الهدف، ولا هي تتوقف عن البحث، وانتقلت الحيلة من الريف الإنجليزي إلى المنطق البشري، فنلجأ إلى "الغلوشة" على الفكرة باتهام، أو صوت عال، أو مشكلة لا علاقة لها بالموضوع، على غرار من أخبروه أن أخته على علاقة بسيد الميكانيكي، فاعترض بأن "سيد مالوش في الميكانيكا ولا بيفهم فيها." احتجت السيدة "ناعوت" بأن بعض منتقديها ارتكبوا أخطاء لغوية تنم عن أنهم لم "يقربوا" القرآن، لأن من "يحفظ ولو سورة متوسطة الطول منه، لا يلحن في اللغة ولا يخطئ في الإملاء والنحو والصرف" -على حد قولها-بالرغم من أن عدم سلامة اللغة لم يحل دون وصول الفكرة، فلماذا لا تناقش السيدة ما قالوه، وليس كيف قالوه؟ والأنكى من ذلك أن بيان السيدة لم يسلم من الأخطاء، فقالت "كنت أحد الدعائم" والصواب "إحدى"، وقالت "على النحو المذري" وربما قصدت "المزري" من فعل "أزرى" أى عاب، في حين أن "أذرى" معناها أطار وفرق... فهل يجوز أن نتهم السيدة أنها لم "تقرب" القرآن هي الأخرى؟ ليس هذا هو الموضوع، لكنه مجرد "رنجة حمراء"! واستنكرت السيدة اعتراض الناس على وصفها التضحية بالمذبحة، وقالت إن الفعل هو "يذبح" ومن ثم فالوصف اللغوي سليم، وغاب عن السيدة أن هناك فرقا بين اللفظ ودلالته، كما أن مصدر الفعل هو "الذبح" أما المذبحة فتأتي في سياق التكثير مع التقبيح من الفعل. فإن كانت استخدمت اللفظ بجهل فتلك مصيبة، أما إن كان بوعي فالمصيبة أعظم. "رنجة حمراء" أخرى ساقتها السيدة باستعراض قراءاتها ومعرفتها بالديانات والفلسفات، وهو ما لا علاقة له بالموضوع، لكنه مجرد احتماء بسلطة المعرفة والفلاسفة والكتب، ومن ثم فإن من يهاجمني إنما يهاجم كل أولئك وهؤلاء، فمن يجرؤ على الهجوم؟ احتجت السيدة أن القرآن لم يحدد نوع أو فصيلة الذبح العظيم، فمن أين جاء الناس بذلك؟ لكنها- وفي نفس البيان- تقول إن قابيل قدم قربانا من الزرع في حين أن قربان هابيل كان ذبحاً. لكن القرآن لم يحدد نوع القربانين أيضا! فكيف اجتمع الشك مع اليقين لدى السيدة؟ لعلها اهتدت إلى ذلك في كتب أخرى ذات مصداقية خاصة لديها. أكبر رنجة حمراء في البيان أنها لم تتناول وصفها "لرؤية" سيدنا إبراهيم "بالكابوس"... لعل المعاجم التي لدى السيدة لم تسعفها بمنطق فارغ مماثل، فآثرت "الطناشا" واكتفت بالسخرية ممن احتجوا على أنها أشارت إلى سيدنا إبراهيم "بالرجل الصالح"... رغم أن الناس يقينا لم يحتجوا على الوصف الذي قالته، لكن احتجوا على غياب الوصف الذي لم تقله. الأمر لم يستدع انتباهي لأهميته، بل لدلالته... صار النقاش جدلاً، وصرنا ندافع عن الحماقة بحماقة أكبر، وصرنا نضيع العمر في التبرير والاستنكار، بدلاً من أن نكتفي بالاعتذار لنفعل ما هو أجدى وأهم... صرنا أسرى للرنجة الحمراء، لكننا لا ذئاباً أبعدنا، ولا نباتاً أثمرنا، وبدلاً من أن تهجرنا الذئاب، صارت تسكننا.