حينما جسد الرائع الراحل خالد صالح دور أحد الساسة المحنكين ضمن رجال نظام مبارك، فى رائعة الأسوانى "عمارة يعقوبيان"، كانت كلماته لأحد راغبى شراء مقعد دائرة مميزة بالعاصمة أكبر دلالة على حال المجتمعات المصرية، "دى زى حتة الجاتوه". العبارة لخصت ما تعنيه منافسات المرشحين داخل دوائر تتفاوت خدماتها وخطط التنمية بها، وتتباين مستويات دخول سكانها وثقافاتهم واحتياجاتهم، وتتأثر اتجاهات التصويت داخلها بما تجود به الحكومات على مواطنيها، أو قل بالأصح ما تصيبه من أهداف داخلها جراء إنجازات منظمة الخطى أو إهمال متعمد. هكذا يبدو الحال ومع أوجه التباين بين دائرة تضم مناطق عشوائية مفقرة ينشغل أهلها بلقمة عيش تضمن بقاءهم على قيد الحياة، وأخرى يتبارى أهلها فى تفسير مصطلحات النخب وتوجهات مذيعي برامج التوك شو، تجد الفرص متاحة رغم صعوبتها لحملة المال السياسي فى دوائر الفقر، مقابل سهولة نسبية للمنظرين والشخصيات ذات الحضور الإعلامي والسياسي وأتباع الأنظمة فى جذب سكان دوائر متمتعة بحظ كبير من خطط التنمية والخدمات وكسب تأييدهم. وهناك دوائر أكثر تشبيهًا بقطعة "الجاتوه" كقول خالد صالح، تضم رجال الأعمال والتجار وأصحاب المصالح ومن يتبعون شركاتهم وتتحول أصواتهم موسميًا إلى مقار عملهم، هكذا الحال بقصر النيل ومدينة نصر والمناطق الصناعية كالسادات مثلًا، هذه الدوائر كان لها الفضل فى تصعيد رجال أعمال نظام مبارك وسيطرتهم على البرلمان والحكومة معًا منذ العام 2005 الذى شهد تعديلات مشوهة لدستور 1971 بغرض توريث الحكم لجمال، وانتخاب رئيس الجمهورية بين أكثر من مرشح صوري فى تمثيلية هزلية، وبعده ظهور كتلة المستقلين وانضمامها إلى الحزب الوطنى قبل حضورها تحت القبة، ليدخل الحياة السياسية مصطلح "الحزب الوطنى المستقل"، وتبدأ قصة نهاية الحزب بسيطرة أحمد عز ومجموعة جمال مبارك عليه. ولن تجد رؤية المرشحين فى دوائر الفقر ورغيف الخبز المدعم متضمنة ما هو أكثر من عمل تنموى خدمى، يرتضى بعضهم معها ابتزاز هذا واستجابة لاحتياج ذاك، وكل منهما أهملت حكومته حقوقه وتغاضت عنها، أما دوائر "الجاتوه" فمصالح رجال الأعمال وحشود تابعيهم، أو تربيطات أهل السلطة، وخطابات المنظرين، فتغزو لجان تصويت ومؤتمرات الترويج، بينما يقف السكان "الأصليون" لها موقف الداعم لمتطلبات دور النائب فى الرقابة والتشريع، ولا يبتعد توجههم كثيرًا عن هذه السمات فى تقييمهم للمرشح. إذا راجعت خرائط التنمية وقرأت نسب توزيع الخدمات على دوائر مصر، خاصة داخل المدن والمراكز والمحافظات الجاذبة للسكان، ستكتشف بسهولة مقدار الظلم الواقع على أبناء دوائر غير قليلة لا يتمتعون بحقوقهم الأساسية، وهذا سر سيطرة الحزب الوطنى عليها لسنوات طويلة، صعدت خلالها تيارات دينية وسيطرت على عقول سكانها الفقراء ووجهت إرادتهم، ولاتزال تداعيات تلك السياسات قائمة ومؤثرة، وسيكون لها دورها فى صنع وتشكيل مجلس النواب القادم.