عندما أعلنت أمريكا عن نيتها في حرماننا من عطفها السامي ومعونتها السخية ، كنت في نفس الوقت تقريباً كنت أتحدث مع أحد أصدقائي عن قرار أتخذته منذ عدة أشهر بتدخين سيجارة كليوباترا بدلاً من سيجارة مارلبورو ، وإمتناعي الكامل عن شرب " الكوكا كولا والبيبسي " ، وكذلك حرمان الإسرة من التردد علي منتجعات " البيتزا هت " و " الماكدونالدز " .. إلخ .. لقد أعلنت أمريكا خلال الأشهر الأخيرة تصريحاً وتلميحاً أنها ستؤدبنا ، ونفذت العقاب عملياً بإنسحابها التدريجي المنظم من إلتزاماتها " كشريك كامل " في عملية السلام ، وفي توقيت مناسب تماماً لرئيس وزراء إسرائيل كي يتم مهمته التاريخية في التخلص من الشعب الفلسطيني ، بل وقامت الإدارة الأمريكية بالوقوف بصلابة وعناد في مجلس الأمن ضد أبسط الحقوق التي يطلبها الشعب الفلسطيني : " مجرد عيون دولية تكون شاهدة علي المجزرة " .. ثم ها هي أخيراً تنقض علينا مكشرة عن أنيابها مهددة إذا مارسنا " سيادتنا " فأنها سوف تقطع المعونة .. وأريد أن أؤكد في البداية –ومنعاً للبس ، أو لأية مفهوم خاطئ في أروقة منظمة التجارة العالمية ، أو لأية محاولة للخبثاء كي يصطادوا في مياه عكرة - ، أؤكد أن حديثي مع صديقي حول سيجارة " كليوباترا " ، وقراري في هذا الشأن لم يكن مبعثه سوي إحترام شديد لهذه السيدة الفاضلة- كليوباترا- التي حطمت قلوب أباطرة الرومان ، ويمكن القول أيضاً أن ذلك يعني –من زاوية علم النفس –محاولة من العقل الباطن لتحقيق حلم مستحيل بالحصول علي قبلة من ملكة ، بل أن تدخين " كليوباترا " لا يحقق فقط " وهم القبلة " ، وإنما أن تدخل أيضاً في " نغاشيش " الرئة ، ويشعر المرء بالسلطنة . ثم أنه لا يمكن أن تكون هناك شبهة تعصب ، بإعتبار أن السيدة الفاضلة " كليوباترا " لم تكن أساساً مواطنة مصرية . إلا أن صديقي –المتفرنج بدون سبب واضح - قال وهو يشفط نفساً عميقاً من سيجار كوبي : " أن " كليوباترا " الملكة لم تكن مصرية ، ولكن " كليوباترا " السيجارة هي منتج مصري ، وذلك تعصب غير مقبول في هذا الزمن العولمي الجميل " .. ورغم إختلافي معه ، فإنني أعجبت أو تعجبت من قوة حجته ، فالتعصب أيها الإنسان تهمة لك إذا أنتميت لأي شيئ ، حتي لزوجتك !! .. أما موضوع المشروبات ، فلم يقتنع صديقي أبداً بما رحت أسوقه من مبررات حول إستمتاعي بشراب " العرقسوس " و " الخروب " و " التمر هندي " ، مؤكداً أن ذلك تعمد واضح لتخريب منتجات دولة أجنبية صديقة ، ورغم إصراري بأنني وصلت إلي قراري من خلال الجهاز الهضمي ، إلا أنه أصر بدوره أن ذلك الموقف غير مفهوم ، لأن الشخص المتحضر لا يمكن أن يتحضر دون أن يشرب " كوكا كولا " أو " بيبسي كولا " ، أما المشروبات التي اشرت إليها وأوصيت بها فهي إحدي علامات التخلف !! .. وحين وصل حديثنا إلي المأكولات ، هاج وماج مدعياً أنني أحرم أسرتي من طيبات الله ، وأنه إذا كنت أنا حراً في قرارتي ، فيجب ألا أحمل غيري تبعاتها ، ثم كيف يتحمل ضميري أن أحرم الطفلة البريئة " ميسرة " من نعيم " البيتزا هت " أو شطائر " الماكدونالدز" ؟ ، إن ذلك وزر سأحمله وأحاسب عليه يوم الدين ، ومرة أخري –ومنعاً لأي لبس - أكدت له أن المسألة لا تزيد عن تذوق وإختيار ، وأن الإنسان يأكل فقط ما يشتهيه ، وليس في الموضوع شبهة –لا سمح الله –إتخاذ موقف أيديولوجي من ساندوتش !! .. وفوجئت به يشن هجوماً قاسياً ضد الفول والطعمية وصحن العدس وشوربة الكوارع ، بل وصل الأمر به إلي إتهام هذا النوع من الطعام بأنه أحد أهم أسباب النكسة ( دون أن يحدد أية نكسة ) ، وقال بصريح العبارة أن تلك الأطعمة ذات أثر واضح في بلاهة الإنسان ، وتؤدي بالإستخدام الطويل إلي ضمور العقل والعجز الجنسي والفكري معاً .. وبطبيعة الحال ، كانت أوصافه المرعبة ، سبباً في صمتي كي أتأمل وأراجع موقفي ، حيث أن ذلك الصديق من الشخصيات اللامعة المتميزة ، ويحمل لقب " د " الذي يسبق إسمه في كل مكان حتي في دورة المياه ، وآراؤه لها وزنها في أوساط الجمعيات الأهلية وبعض البرامج الفضائية والصحف السيارة ، ألا يجوز أنه علي حق ؟ ، ألا يمكن أن أكون قد ألحقت بنفسي –وبعائلتي –ضرراً فادحاً بتلك القرارات ؟ .. وبدأت أفكر .. أقول " أفكر رغم الفول والطعمية وشوربة الكوارع " .. وبين حيرتي في الموقف الذي أوقعتني فيه الإدارة الأمريكية ، فوجئت بإحدي سيدات العائلة تخبرني بأنها توقفت عن شراء " البامبرز " الأمريكي لأطفالها ، وأن صاحب الصيدلية ذكر لها أن ذلك البامبرز قد ركد وكسد لإمتناع الناس عن شرائه،فقلت لنفسي " حتي البامبرز!! " ، وأدركت صعوبة أو إستحالة تغيير ما أستقر عليه الضمير ، وقررت أن أقول لصديقي الدكتور المتأمرك في أول فرصة –ومنعاً لأي لبس - أنني أفضل الخروب والتمر هندي ، وأستمتع بالفول والطعمية وشوربة الكوراع ، وأدخن " كليوباترا " بغض النظر عن المعونة الأمريكية …!! من العدد المطبوع من العدد المطبوع