لا يتذكر ثقاة المؤرخين بالضبط متي بدأ هذا الزمن الجديد ، وكأنما هو زمن غافل الزمن وتسلل إلينا ، أو قطار داهمنا فجأة بينما كنا نسترخي فوق قضبان التاريخ و نمص عيدان القصب ، أو نيزك سقط فوق رؤوسنا فأحرق فيها مركز الذاكرة ومراكز الشعور والتأثر ، أو أثر بقي من آثار العدوان لم تتم إزالته منذ 1967 ... وإذا سألتني ، لا أعرف ، وربما لا أريد أن أعرف ، فالمعرفة صارت هم الليل وذل النهار ، وأي إضافة تعني ذلاً وهماً جديداً وقد وصل العمر إلي أرذله ، ولم يعد يحتمل رذالات أخري ، ولعل في معني الزمن الجديد ما يريح ، فهو يشير بشكل ما إلي الإختزال وعدم اللف والدوران ، فكم أرهقتني دوائر الشيخ " إبن عربي " ودوخني معه في " الفتوحات المكية " ، وكم أبيضت ليال قرأت فيها للطبري والمقريزي وإبن إياس وأبو الفرج الأصفهاني وطه حسين والعقاد وغيرهم ... كيف لم يكتشف عبقري هذه الصيغة السهلة المريحة :" هات من الآخر " ويريحنا ويريح غيرنا ، هل كان ضرورياً أن أقرأ كل كتب طيب الذكر هنري كيسنجر كي أكتشف أن بذور العنف في السياسة الخارجية الأمريكية ، لم تكن سوي تنويعات علي لحن سياسات القوة ولعبة توازن القوي ، هل كان من اللازم أن أقرأ كل سطر وجدته أمامي يتحدث عن تاريخ وتطور الحركة الصهيونية بما في ذلك كتب الأدب والصحف العبرية كي أتوصل إلي أن إسرائيل دولة عنصرية توسعية ؟ ، ما أضيع الليالي التي أمضيتها في قراءة أسفار طويلة عن الحروب الصليبية ، وكتابات المستشرقين ، رغم أنها جميعاً في التحليل الأخير لم تكن سوي عداء وكراهية للإسلام ... أقول أنه كان من الممكن أن يعيش الإنسان أكثر سعادة لو اختزل كل ذلك واعتنق نظرية : " هات من الآخر " ... أن المعرفة التي لا تكون زاداً للحياة بهدف تغييرها إلي الأفضل ، هي معرفة عقيمة ، تماماً مثل المقال الذي لا يتناسب مع الحال ولا يؤدي إلي مآل ، فحين تسود فلسفة الفهلوة والمحسوبية والواسطة ، فالمعرفة لن تكون إلا زاد عذاب ، ولا أدري لماذا أتذكر الآن ما قاله لي والدي رحمة الله عليه ذات مرة : " أعرف يا ولدي أنك لو ولدت مبصراً في مدينة يسكنها عميان ، عليك أن تصر علي أنك تري ما لا يرون مهما سخروا وتكالبوا عليك ، فبصرك نعمة ولكنه أيضاً مسئولية عليك أن تحملها بأمانة " .. لا شك في حكمته ، ولكنني أريد أن أعرف المصير إذا أصر العميان علي أن يخزقوا عين المبصر ، وصمم الجهلاء علي تلويث سمعة العلماء ، وسادت نظرية : " هات من الآخر " ؟ ...ثم – وهو الأهم – في هذا الزمن البرزخي ، هل يمكن أن نعرف حقاً التمييز بين الإعمي والبصير ؟؟ ...
الشك في المسلمات والبديهيات يعد منهجاً علمياً ، لم يبدأه " ديكارت " ، وأقرأ معي ما قاله إبراهيم لربه : " أرني كيف تحيي الموتي ؟ " ، فسأله الرب : " أولم تؤمن ؟! " ، فقال : " بلي ولكن ليطمأن قلبي " ، هذا الحوار الدال القوي مع أبي الأنبياء يضع علامات واضحة كي نهتدي بها ، فالوصول إلي الحقيقة معاناة البحث بين التفاصيل للربط بينها وإستخلاص ما يشبه الحقيقة ، وهذا البحث قد يستغرق العمر كله أو أعمار أجيال متعاقبة ، فكيف يمكن أن يختزل ذلك في : " هات من الآخر " ؟ .. صحيح أن " خير الكلام ما قل ودل " ، ولكن لابد أن يكون للكلام بيان ، وإلا صار الحوار حواراً للطرشان .. أليس ذلك ما تعلمناه ؟ ، أولم يكن ذلك منهج الأمم التي حققت التقدم والرخاء منذ قديم الأزل وحتي يرث الله الأرض ومن عليها ؟ .. ربما لا تعني النظرية الجديدة سوي " كسل عقلي " أو " بلادة حسية " أو " يأس من النتيجة" ، فهل يصح ما كتبه بعض المستشرقين من أن " مناخ الشرق يؤثر علي أسلوب تفكير أهل الشرق ، بعكس الغرب الذي تدفع برودة طقسه الناس إلي النشاط واليقظة والرغبة الدائمة في الحركة " ؟ .. وإذا كان ذلك صحيحاً ، فهل كانت مصر في عصرها الفرعوني تحيي في الفترة الجليدية ، وكان عرب النهضة الإسلامية يضعون أكياساً من الثلج فوق رؤوسهم ؟ ، بل كيف نفسر حضارات الصين والهند والفرس وغيرها ؟ ، بل وتلك النهضة التي تحققها النمور الآسيوية ومعها – مرة أخري – الصين والهند ؟ .. هل يمكن أن نعزي ذلك إلي قصور مناهج التعليم وضآلة مخصصات البحث العلمي بشكل عام ، وعدم الإحتفاء الواجب بالعلماء والمفكرين ( يحضرني هنا الجهبذ جمال حمدان ) ، أم أن المسألة تضرب بجذورها إلي أعماق أبعد ؟ ، هل هي مثلاً ما ذهب إليه البعض من سيطرة الفكر الإستبدادي المتحصن بالدين والتقاليد الموروثة تلك التي تدفع إلي الفرار من العقل والركون إلي الأسطورة والخرافة والغيبوبة ؟ .. من المؤكد أن هناك من سيمر بعينيه علي هذا المقال وينفخ في ملل وهو يقفز بعينيه إلي الخاتمة كي يدخر الوقت ويريح العقل ، وإن كنت لا أعرف يدخر الوقت لماذا ؟ ، ويريح العقل من ماذا ؟ ، فكلنا نعرف أن الوقت لم يعد " كالسيف إن لم تقطعه قطعك " ، وإنما صار مثل قطعة الأفيون نستحلبها في لذاذة كي نغيب عن الوقت نفسه ، وليس هناك سيف ولا قطع ولا يحزنون . أصارحكم القول بأنني أحياناً أشعر بالرغبة في تمزيق المقال فور الإنتهاء من كتابته ، فما هي جدوي الكتابة ؟ ، وربما علي ضوء المقال الحالي قد يكون من المناسب أن أكتب سطراً واحداً " من الآخر " وكفي الله المؤمنين شر الكتابة ! .. قد تتمحور المسألة كلها حول شعور كاذب بإدعاء إمتلاك الحقيقة ، ولكن ذلك غير صحيح ، لأن الذي يمتلكها أو يتصور ذلك لن يحتاج للكتابة أو حتي البحث والتفكير ومكابدة متعة وعذاب التأمل ، أنه الأرق الأزلي الذي يفتش بلا إستقرار عن الإجابات ، وهو النار المقدسة التي تدفئ وتضيئ ، تلسع وتحرق ، وفي النهاية قد لا يبقي منها سوي الرماد والدخان ... من العدد المطبوع من العدد المطبوع