الحاضرُ ابن الماضي، والماضي يأبى أن يمضي، وما أطول تاريخ مصر و أعجب فصوله! خاصة إذا كان ما لم يُقل أهم أحيانا مما عرفناه. كثيراً ما كان التاريخ عرضة للتشكيك، مما حدا بالبعض أن يذهب إلى أنه "مجموعة من الأكاذيب المتفق عليها" ولذا كثيرا ما توقفت عند قصص مصر كما أخبرنا الكتاب الذي نؤمن أن كل ما به حق. وتكاد تكون قصة سيدنا موسى واحدة من أقدم الشواهد السياسية على علاقة الحاكم بالمحكوم في دولة عتيدة في الاستبداد. يقرر الحاكم أن يقتل الموالبد الذكور من أبناء أقلية في شعبه بسبب حلم رآه وعرافين فسروه له! ألم يكن الأولى أن يعدل معهم ويضمهم بدلاً من أن يظلمهم ويخشاهم؟ ذبح أبناءهم والناس على ما هم عليه... لا اعتراض. يولد موسى، وتودعه أمهسطح النيل ليصل إلى قصر الحاكم وتأخذه امرأته.. معناه أن الحاكم كان يسكن على النيل، ولم توجد حوله بيوت أخرى يبصر سكانها التابوت. إنها ثقافة المساحات الواسعة التي تفصل الحاكم عن المحكومين في أنظمة الأستبداد. لا نعرف الاسم الذي اختارته الأم لوليدها، لكننا نعرف أن آل فرعون أسموه "موسى" أي إن اسم نبي الله الذي خلد في كتبه كان من اختيار آل عدو الله. يُبعث موسى، ويذهب إلى فرعون بالآيات، فيكفر بها الفرعون، ويطلب من مساعديه أن يبنوا له برجاً ليري إن كان هناك رب في السماء. لا أعرف كيف استطاع معاونوه أن يجعلوه ينسى الفكرة، أو ربما أدركوا أنها إحدى اشتغالات الفرعون فلم يردوا هم ولم يعد إليها هو. الأدهىأن الفرعون أخبر: "لا أعرف للناس إلهاً غيري"! هل كان مؤمناً حقاً بذلك، أم أنه استهبال لم يجرؤوا على مناقشته. ولماذا يرغب في إن يكون إلهاً؟ هل شجعه خنوع الناس؟ أم أطمعه نفاقهم؟ هل تصنع الشعوب آلهتها أم يصنع الحكام عبادهم؟ رأى فرعون الآيات وعدها سحراً، وقال لموسى: عندي منك كتير، وتعالى وأنا أوريك. اجتمع السحرة لهزيمة موسى، وقبل البدء سألوا فرعون عن السبوبة قائلين: "ائن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين"؟ فوعدهم بالمال والمناصب ... اكتشف السحرة أن موسى نبي حقاً، واكتشف الآلاف ممن حضروا التحدي، آمن السحرة ولم يؤمن الناس، أو ربما آمنوا قلبياً لكن انصرفوا لأكل العيش وتربية العيال. سلط الله على بر مصر الآيات من الضفادع وغيرها، وعند كل مصيبة كانوا يقولون إنه النحس الذي جلبه موسى علينا على طريقة "منك لله يا موسى" ... وبعد ذلك يطلبون من موسى أن يدعو الله لكشف الضر، ولما ينكشف يعملوا نفسهم من بنها ولا يعرفوا موسى! الأنكى أنهم قالوا له قبل تلك الآيات: "مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ" يعني مهما كانت معجزاتك برضه مفيش فايدة، أنسى! عجيب هذا الإصرار على الرفض والضلال وإلغاء العقل! لا أعتقد أن حياتهم كانت وردية حتى يخافوا عليها أن تتبدل. ما الفائدة من العداء مع موسى رغم سطوع حجته أمام السحرة وكل الخلق؟ وما سر الخنوع للفرعون رغم كل استهباله واستعباده لهم؟
أخذ موسى قومه ليهربوا من مصر، فانطلق وراءه الفرعون وجيشه، فيشق موسى البحر أمامهم وينزل إليه ، فإذا بالاستهبال يبلغ مداه بالفرعون... المعجزة أمامه وأمام جيشه، وبدلاً من أن يدركوا أن موسى مؤيد من قاهر لا يُقهر، إذا بهم ينزلون إلى اليابس وحولهم الماء كالجبل من الناحيتين... هل كان فرعون وجيشه يتصورون أنهم سيستخدمون معجزة موسى في القبض على موسى؟!! ماشي... الفرعون كان صاحب مصلحة، وأعماه الغرور، ماذا عن الجيش؟ ما الغاية من هلاكٍ لا جدال فيه؟ أنتهى الفرعون وجيشه، وليس هناك من وسيلة نعرف بها كيف برروا للناس هلاكهم، لكن نستطيع أن نتخيل. لم يترك المصريون أي جدارية أو حفرية أو بردية عن ذلك الذي حدث، كما لم يدونوا أي شيئ عن الأخيار الذين عاشوا بينهم أو مروا بهم. لم يترك المصريون وصفاً أو ذكراً لأنبياء الله إبراهيم ويعقوب ويوسف وشعيب وموسى وعيسى، فقط خلد المصريون فراعينهم، وصنعوا لهم التماثيل العملاقة والمقابر الخالدة، ودفنوا بالتراب تحتها. وبالرغم من أن يوسف كان النبي الذي حكم في بر مصر، إلا أنه لم يُذكر، أو ربما ذُكر ثم مَحى ذكره من جاء بعده، لكن المؤكد أن الاستبداد والاستهبال حكما مصر كثيراً، حتى صارا في خلايانا، فما عدنا نستهجنهما، أو نشعر بالاستغراب تجاهما. لا بأس في أن يكون الحاضرُ ابناً للماضي، لكن البأس كله في أن يظل أسيره. من العدد المطبوع من العدد المطبوع