مليارات ..دولارات .. يورو .. إسترليني .. ين .. دنانير كثير .. أحمدك يارب ! .. ولكن الناس الحاقدة المتآمرة مصرة علي أن تقول مثل ذلك المسلسل الإذاعي الشهير في خيبة أمل : " السلطانية !! " .. ولكن كان هناك شبه إجماع علي أن مصر قد أصبح لها رئيس بارع في التفاوض ، حيث استمر في الفصال مع تلك الشركات " الإستعمارية " ونجح في أن ينزل بالسعر إلي النصف أو أكثر ، وكذلك تمكن من تقليل مدة التنفيذ بمهارة .. لا أستسيغ خداع الناس لمجرد إرضاء شهوة الرضا بوسائد الأحلام والنوم في العسل ، وأجدني مضطراً أن أخوض غمار محاولة التفكير خارج الصندوق ، رغم علمي بأن الإعلام المزيف قد نجح في خلق حالة من الهيستريا الجماعية ، أو ما يمكن أن أسميه ببعض التجاوز " ترامادول جماعي " ، تصبح معه محاولة إبداء أي رأي مخالف تشبه السير في طريق عكس اتجاه آلاف من الثيران الهائجة ... إذا لم يكن هناك البرلمان الذي يتابع ويراقب ؟ ..أليس من واجبنا أن نتكلم علي الأقل ؟!.. أو نفكر ؟؟
أن بطل رواية 1984 لجورج أورويل ارتكب جريمة التفكير ، ومن المؤكد أن شرطة التفكير قد علمت بجريمته ..صدرت هذه الرواية عام 1949 ، وهي نوع من الخيال السياسي قدم فيه الكاتب رؤية للأخ الأكبر الذي يري ويسمع ويراقب كل شيئ في دولته ، ومن خلال أدوات تؤدي تدريجياً إلي فقدان الإنسان لكل قيمه ومبادئه بما في ذلك قيمته كإنسان ، حيث يتجرد تماماً من مشاعره .. تثير الرواية العديد من القضايا ، ومن أبرزها علاقة الثورة بالحكم ،حيث يذهب الكاتب إلي أن الشعوب لا تؤسس حكماً استبدادياً لحماية الثورة ، وإنما تقوم بالثورة لتأسيس حكم استبدادي ، كما ذهب أيضاً إلي أنه ليس من المفضل لدي الحاكم المستبد أن يتمتع الشعب بثقافة أو وعي سياسي ،وإنما يمكن الإكتفاء فقط بإذكاء المشاعر الوطنية الغريزية وإشعالها في مواجهة الظروف .. من المعروف أن أغلب الناس تفضل ألا تبتعد عن المنطقة الدافئة "الآمنة " ، لذلك يختار كل واحد من الأخبار والتفسيرات ما يتفق مع منطقته الدافئة كوسيلة لحماية نفسه من فيضان الأخبار الأخري التي تبتعد عن تلك المنطقة الآمنة ، أي أنه يستخدم فلتر خاص تمر منه فقط الأخبار التي تتماشي مع أختياراته ..وأحياناً تتضاءل هذه المنطقة الآمنة وتصبح صغيرة جداً بالكاد تتيح للشخص التمسك برأي أو رأيين يدافع عنهما بقوة وتعصب .. ولكن بعيداً عن هذه المنطقة الآمنة دعونا نتساءل معاً : أيهما أجدر في ظروفنا الموضوعية الحالية : عاصمة جديدة أم تنمية محافظات الصعيد ؟ ...هل من الأفضل سكب مليارات أخري في خراسانات ورمال ( علي غرار توشكا والساحل الشمالي ) أم استخدامها لبناء مصانع إنتاجية أو حتي محور التنمية الذي تحدث عنه الدكتور فاروق الباز ... ورغم أنه لدي العديد من الملاحظات علي المؤتمر الإقتصادي الذي عقد مؤخراً في شرم الشيخ ، إلا أن لدي ملاحظة شكلية ولكنني أراها لا تقل أهمية ..لقد أختار الرئيس أن يرتجل في خطاب المؤتمر الختامي ، رغم أنه أشار إلي وجود كلمة قد أعدوها له !! ..وارتجل بالفعل لبضع دقائق حيث توجه بالشكر لمن شارك في المؤتمر ، ولكنه حكي للحضور كيف تمكن بمهارة من أن يخفض الأسعار بالفصال مع شركتين أجنبيتين ، وبطريقة حاول الرئيس أن يجعلها مفهومة لبسطاء المصريين :" طب عشان ربنا .. يعني ننزل شوية .. طب ننزل 100 مليون كمان " ، والحضور يصفق بحماس إعجاباً بقدرات الرئيس التفاوضية ، ولا شك عندي في أن الملايين الذين كانوا يتابعون الخطاب علي شاشات التليفزيون أيضاً كانوا في حالة من النشوي تتطوح بهم .. بداية .. كنت أتمني ألا يرتجل الرئيس .. وفي الواقع إرتجال المسئولين لا يتم إلا بحساب وقدر وفي مساحة محدودة ، فلم نشهد أي رئيس أمريكي مثلاً يرتجل في خطاب رسمي .. وذلك ليس تشكيكاً في قدرات الرئيس الخطابية لا سمح الله ، وإنما لأن كلمات المسئولين خاصة إذا كانوا رؤساء دول أو وزراء خارجية تحسب علي دولهم ، وغير مسموح بأدني خطأ في هذا الإطار ، وقد سبق لي أن كتبت عدة مرات في المشاكل التي تسبب فيها بعض المسؤولين عندما ورطوا بلادهم بسبب تصريحات غير مسئولة .. وليت المشكلة تقف عند هذا الحد .. فقد ذكر الرئيس أسماء الشركات التي قام بالفصال أو التفاوض معها ، ومن الواضح أنه نجح في تقليل زمن تنفيذ المشروعات لعدة سنوات !! ، وتخفيض التكلفة بمئات الملايين من الدولارات !! ، وذلك وأيم الله نجاح لا يشكك فيه سوي جاحد أو جاهل .. ولكن .. إذا كانت تلك الشركات العالمية الشهيرة قد تراجعت بهذا الشكل ، فهي واحدة من أثنتين ، إما أنها شركات نصابة وكانت تريد أن تضحك علي ذقوننا لولا تنبه السيد الرئيس ، وإما أنها شركات لا تعرف ماذا تفعل لأنه يفترض أنها حسبت حساباتها بدقة سواء من حيث التكلفة أو من حيث الزمن الذي يستغرقة المشروع .. وأخيراً لا يمكن أن نهرب من سؤال ملح : " هل أصبح التفاوض من واجبات الرئيس ؟ ، وهل هو مؤهل لذلك ؟ " ، وأسارع بالتوضيح بأن القدرات التفاوضية مطلوبة في كل من يتولي مسئولية ، ولكن التفاوض حول بعض المسائل الفنية يتطلب قدرات ومعلومات خاصة لا يفترض توفرها في كل إنسان .. ثم .. ألا يجوز ، طالما الحال كذلك ، أنه كان من الممكن أن نحصل علي شروط أفضل سواء في السعر أو مدة التنفيذ ، لو تولي التفاوض فريق مدرب علي ذلك ، ومارس التكتيكات التفاوضية المختلفة ( ومنها مثلاً عرض المشروع علي شركات أخري ) .. ثم لماذا إصدار قانون للإستثمار قبل المؤتمر بساعات قليلة ، لنكتشف أن المادة 12 فيه تقضي بأنه " يكون للشركات والمنشآت الحق في تملك الأراضي والعقارات اللازمة لمباشرة نشاطها أو التوسع أياً كانت جنسية الشركاء أو المساهمين أو محال إقامتهم في رأسمالها وذلك عدا ..." .. أي أن أي شركة إسرائيلية أو رجل أعمال إسرائيلي سوف يكون لديه الحق في تملك أراضي مصرية ، ألا يعني ذلك أن إسرائيل قد تحصل بالقانون علي ما دفع مصريون ثمن تحريره بالدم ..هل يمكن قبول ذلك دون الإستعانة بالترامادول ؟ ... من العدد المطبوع من العدد المطبوع