مخطئ من يظن للحظة ان دماء الشهداء تضيع، فهي تتجمع معا لتصنع بحرا يغرق فيه الظالمون والجبابرة، وقد تتحول الي برميل بارود فتفجر حماس وغضب العادلين في وجه العتاة السفاحين. وهكذا الامر بالنسبة لشهداء "اسطول الحرية" الذين فقدوا حياتهم في عرض البحر، علي يد قوات الاحتلال الاسرائيلي لمنعهم من كسر الحصار المفروض علي غزة. كانت اولي نتائج هذه الدماء هو سقوط القناع عن وجه اسرائيل القبيح امام العالم، باعتبارها قوة احتلال معتدية وغاشمة وسافكة للدماء، لا تفرق بين مدني اعزل ومقاوم مسلح. وفي لحظة واحدة فقدت اسرائيل كل ثمار آلتها الاعلامية الكاذبة التي لا تتوقف عن ترديد الاكاذيب، سواء لتجميل وجه اسرائيل، او لترويج الاكاذيب وتزييف الحقائق بحق العرب عامة، والفلسطينيين بصفة خاصة. وها هي اسرائيل علي وشك الاذعان للضغط الدولي لتخفيف الحصار عن غزة، عبر تشكيل لجنة مراقبة دولية تتيح وصول المساعدات مباشرة الي غزة عبر البحر. آه لو فعلها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ونفذ وعده بشأن مرافقته شخصيا لقافلة جديدة يجري الاعداد لها حاليا في تركيا، وتقرر ان يرافقها الاسطول العسكري التركي، لكسر الحصار عن غزة، لو فعلها اردوغان لاشعل العالم من اوله لآخره، حماسة واعجابا وتتويجا! ولن اندهش ساعتها من فيض التقارير والدراسات التي تتناول فكرة احياء "الخلافة العثمانية" للعالم الاسلامي! بل ان البعض يؤكد ان اردوغان ابلغ الرئيس الامريكي باراك اوباما مباشرة بما ينوي فعله، وطلب منه اوباما التريث قليلا لبحث الامر! ورغم التخبط الذي ساد وسائل الاعلام الاسرائيلية في اعقاب واقعة العدوان الاسرائيلي علي قافلة "اسطول الحرية"، التي جمعت اناسا من 35 دولة، وكانت تستهدف كسر الحصار المفروض علي غزة، كان هناك ما يمكن وصفه بشبه اجماع علي ان المستفيد الاكبر هو تركيا، بينما كان الاكثر ضررا من العملية في اسرائيل هو وزير الدفاع ايهود باراك الذي طالبه الكثيرون بتقديم استقالته من حكومة بنيامين نتنياهو، لمسئوليته عن الحادث الدموي، او لانقاذ رقبة اسرائيل امام الرأي العام العالمي. ولكن نتنياهو كان صاحب النصيب الاوفر في النقد الموجه لعملية العدوان علي اسطول الحرية. دولة شقيقة ففي صحيفة معاريف الاسرائيلية اكد المحلل الاسرائيلي بن كسبيت ان تركيا حققت ارباحا مضاعفة من الازمة، بينما دعت صحيفة هآرتس الاسرائيلية في افتتاحيتها الي عدم اعتبار تركيا دولة معادية لاسرائيل، مشيرة الي ان العلاقات بين تركيا واسرائيل كانت قد بلغت درجة تفوقت فيها كثيرا علي العلاقات المصرية الاسرائيلية، حين بات الاسرائيليون يرون في تركيا "دولة شقيقة". ودعت الصحيفة الي احتواء الخلاف مع تركيا بسياسة رشيدة تتضمن تقريب تركيا من عملية السلام في الشرق الاوسط ومنحها دورا ما يرد اليها اعتبارها! بينما كشفت صحيفة يديعوت احرونوت الاسرائيلية الكثير من التفاصيل المهمة عن الحادث، في تقرير بعنوان "سفينة محاصرة ودولة محاصرة"، بدأته بالاشارة الي ان اسرائيل، وتحديدا نتنياهو وباراك ووزير الخارجية ليبرمان، خططوا لحياكة مسرحية اعلامية لتحسين وجه اسرائيل قليلا امام الرأي العام العالمي، عبر انتزاع اعترافات بما يريدون من نشطاء اتراك ممن كانوا علي متن السفينة التركية "مرمرة" ضمن اسطول الحرية، يقولون فيها ان اسرائيل علي حق، وان النشطاء هم من بدأوا الاعتداء علي الجنود الاسرائيليين، وانهم كانوا مسلحين بسكاكين المائدة وملاعقها! وكان الهدف هو الايحاء للعالم ان اسرائيل لم تقتل 9 مدنيين عزل كما حدث، وانما قتلت "ارهابيين مدربين وقتلة مأجورين وعملاء للقاعدة"! وتقول الصحيفة ان الحكومة التركية كانت غاضبة الي حد الحسم، اذ ارسل اردوغان رسالة مقتضبة الي تل ابيب، مفادها انه سيرسل طائرتين الي اسرائيل، وان امام الاسرائيليين مهلة حتي الساعة 11 صباحا كي يضعوا كل الاتراك المشاركين في قافلة كسر الحصار عن غزة، علي متن هاتين الطائرتين، "وإلا فعليكم ان تتحملوا النتائج"!.. هكذا وبلغة تهديدية واضحة اعترفت بها اسرائيل، واذعنت لها ايضا في نهاية الامر. من بين التفاصيل التي تكشفها الصحيفة ايضا ان وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك تحدث مع وزير المخابرات المصرية عمر سليمان، خلال ازمة الاسطول وقبل تطورها الي الحالة الدموية، واقترح سليمان تفريغ شحنة القافلة في العريش، ونقلها الي غزة عبر الحدود المصرية، لكن منظمي الاسطول رفضوا. وكشفت يديعوت احرونوت عن بعض المداولات التي دارت بين قادة اسرائيل قبل ارتكاب مذبحة اسطول الحرية، فقيل ان نتنياهو جمع المجلس الوزاري المصغر بوزرائه السبعة لاستشارتهم، وحرص علي ان يسأل كلا منهم علي انفراد عن رأيهم، فأيد الجميع الهجوم علي الاسطول! وقال رئيس الاركان الاسرائيلي جابي اشكنازي: هناك احتمالان فقط، اما تمكين الاسطول من المرور الي غزة، او ايقافه بالقوة. وقد رفض البديل الأول لكنه حذر من أن البديل الثاني مصحوب بالعنف وسفك الدماء. بينما اقترح أحد الوزراء تمكين الاسطول من المرور بشرط ان توافق حماس علي أن يلتقي مبعوثون من الصليب الأحمر جلعاد شليط. وكان الهدف من الاقتراح دعائيا في ظل يقين تام بان حركة حماس لن توافق عليه. نتنياهو الفاشل رغم ان بن كاسبيت يطالب، في مقال له بصحيفة معاريف، برأس باراك ويحمله مسئولية ما حدث، إلا انه وجه نقدا لاذعا لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو واتهمه بالفشل في كل شيء وعد به خلال حملته الانتخابية لرئاسة الحكومة، فقال مخاطبا اياه: "عندما نافست في رئاسة الحكومة وعدونا ب3 أمور: أن تنقذنا من البرنامج النووي الايراني وتمنع القنبلة؛ وأنه لا يوجد أحد يعرف أمريكا أفضل منك؛ وأنك سيد الاعلام العالمي. وهكذا مرت سنة وتبين أن الجبل تمخض فأنجب فأرا، فأمريكا تضربنا بلا انقطاع، والقنبلة الايرانية تنطلق بسرعة أكثر من أي وقت مضي.. لا تنجح في اتخاذ قرار واحد دون ان تندم 5 مرات في الطريق اليه". ثم يؤكد مجددا ان نتنياهو فشل في كل شيء، وانه نجح فقط في ان يجمع حوله فريقا من الفاشلين! وانه خائف من افيجدور ليبرمان وايلي يشاي بنفس درجة خوفه من الموت، ويقول له: "كل ما تريده هو ألا تفعل شيئا وأن تبقي في عملك". وتحت عنوان "دولة تنتحر" وجه المعلق الاسرائيلي البارز نحميا شترسلر نقدا لاذعا لنتنياهو، في مقال له بصحيفة هآرتس، فاتهمه بالفشل الذريع واضاعة الامن الاسرائيلي وتعريضه للخطر، وتأليب العالم كله علي اسرائيل، التي باتت في ادني مكانة علي مستوي العالم، بما ينال من شرعية وجود الدولة العبرية! وقال ان اسرائيل في طريقها الي تشكيل لجنة تحقيق اخري، علي غرار لجنة جولدستون، ستنتهي الي ادانة اسرائيل والمطالبة برفع الحصار عن غزة. وابدي الكاتب اندهاشه من قدرة نتنياهو علي افساد علاقات اسرائيل بدول العالم، فقال انه نجح في تحويل تركيا الي عدو بعد ان كانت حليفة استراتيجية لاسرائيل، ويلقي بها الان الي احضان سوريا وايران. واكد ان نتنياهو يساهم بسياساته في خلق شرخ عميق مع الاقلية العربية في اسرائيل، ويسير بالقضية الفلسطينية الي حل "دولة واحدة لشعبين"، الذي يعتبره كثير من الاسرائيليين بداية فناء اسرائيل! وهذا طبعا بخلاف العزلة الدولية التي باتت فيها اسرائيل. بينما دعا الكاتب الاسرائيلي الوف بن الي انفصال اسرائيل عن غزة نهائيا وازالة بقية مظاهر الاحتلال فيها، مؤكدا ان هذا هو الوقت المناسب لفعل ذلك! وقال ان محاولة اسرائيل حكم حماس من الخارج فشلت وكبدت اسرائيل خسائر فادحة علي الساحة العالمية. وتحت عنوان "خذوا غزة" قال بن ان علي اسرائيل ان تعلن للعالم كله انها قررت رفع مسئوليتها نهائيا عن غزة، وسوف تغلق المعابر المؤدية اليها تماما، وعلي غزة ان تتلقي احتياجاتها الطبية والغذائية عبر البحر او الحدود المصرية. "وتحدد اسرائيل موعدا لاحقا لتنفيذ الانفصال مع غزة علي صعيد المياه والكهرباء، والتوقف عن استخدام العملة الاسرائيلية (الشيكل) هناك! وفي المقابل تعلن اسرائيل انها ستبقي قطعا بحرية في عرض البحر لتفتيش اية سفينة يشتبه بها قبل وصولها الي غزة، مثلما تفعل بقية الدول الكبري! قرية حدودية تجارية لا ينبغي ان نقلل من اهمية القرار المصري بفتح معبر رفح امام الفلسطينيين، دون اجل مسمي، واعيد لاذكر باقتراح سبق ان اقترحته: لماذا لا يتم انشاء قرية تجارية علي الحدود الفلسطينية المصرية، تشارك فيها كل الشركات والمصانع المصرية، لعقد الاتفاقيات مع الفلسطينيين وتصدير منتجاتنا اليهم؟! اذا فعلنا ذلك ستكون الفوائد عظيمة، فسوف يكون ذلك حلا عمليا لرفع الحصار عن غزة، بما يمثله ذلك من صيانة لمكانة مصر في القضية الفلسطينية، وينفي الاتهامات التي توجه اليها بين الحين والاخر بانها تشارك اسرائيل في حصار غزة، كما ان الشركات المصرية ستحقق ارباحا كبيرة من وراء ذلك، بما يعني انتعاشة للاقتصاد المصري يخفف من وطأة اوضاعه. وسوف يترتب علي ذلك بصورة عملية انتهاء "بزنس الانفاق" والتهريبات علي الحدود المصرية. كما ينبغي ان يتم توظيف اهالي سيناء في هذه القرية التجارية او المعرض التجاري الدائم، حسبما نطلق عليه. والمهم ان تتحقق الاهداف للجميع: كسر الحصار علي غزة، توفير احتياجات الفلسطينيين، فرص عمل لاهل سيناء، فرص تجارية للشركات المصرية، دفعة قوية للاقتصاد المصري، صيانة مكانة مصر وسمعتها العربية والدولية. ولا تنسوا: الفلسطينيون ليسوا فقراء! فهم يملكون المال، ولكنهم يبحثون عن البضاعة!