في حقبة السبعينات من القرن الماضي كان لدورات مهرجان برلين السينمائي الدولي مذاق خاص يميزها عن دورات أي مهرجان سينمائي عالمي آخر.. وبانقضاء دورته الستين يوم الأحد الماضي بفوز الفيلم التركي «عسل» للمخرج سميح جويلان نجلو، يرد إلي الذهن - كما قلت - ذكريات غزوات تركية قديمة للمهرجان أيام «السور والحصار» والبوابة المغلقة بين برلينالغربيةوبرلينالشرقية.. أيام كان المهرجان يتبني ويحتفل بمخرج تركي يساري هو «يلماظ جويني» يقضي أغلب سنين عمره وراء القضبان ولأنه ذو سمعة عالمية وتوجهات يسارية كان سجانوه يسمحون بدخول «الموفيولا» إلي زنزانته لكي يعد المونتاج لفيلمه الذي شارك في تصويره لبعض من وقت قبل أن يسجن وترك لمساعديه ومعاونيه أن يكملوا تصوير السيناريو الذي أعده لفيلمه.. وما أن يعلن جويني عن فيلمه الذي ينهيه في سجنه حتي يسارع منظمو مهرجان برلين بادراجه في القائمة الرسمية للمهرجان.. أفلام خلف القضبان كنا نتندر بجويني وأفلامه المرسلة من خلف القضبان، والحق يقال إنها د ائما كانت تناقش موضوعات إنسانية من واقع الحياة التركية وتميل إلي صف الإنسان البسيط المكافح في الحياة، بتبني كامل للرأي اليساري والانتصار لليسار.. «عسل» في جذع شجرة ولأنني كنت وما زلت أبحث عن الدوافع السياسية التي تحكم اهتمامات مهرجانات السينما العالمية الشهيرة فقد كنت دائما أفسر اهتمام مهرجان برلين بأفلام جويني بالجري وراء الشعبية عند جالية تركية كبيرة تتجاوز في برلين وحدها مليون ونصف المليون شخص.. يعيشون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في برلينالغربية التي تشبه جزيرة وسط محيط من الدول الاشتراكية وعلي رأسها بالطبع ألمانياالشرقية.. هذا من جانب، ومن جانب آخر كان المهرجان ذو الطابع الغربي في تلك الحقبات يزهو ويتباهي بأنه «ليبرالي» يتيح فرصة المشاركة لمخرج شيوعي تركي هو يلماظ جويني بنفس المنطق الذي يتبني به مشاركة الدول الاشتراكية.. الاتحاد السوفيتي «وقتها» والمجر وبلغاريا ورومانيا وبولندا. وأعود إلي الفيلم التركي «عسل» الفائز بجائزة الدب الذهبي فيه عمق أفلام يلماظ جويني وتوجهاته الإنسانية وما أظن مخرجه سميح كوبلان نجلو لا جويني النزعة والتوجه ولابد أنه دارس مدقق لسينما يلماظ جويني.. فالفيلم يستعرض حياة رجل تركي بسيط يمارس عملا صغيرا ليس ذا أهمية فهو يصنع خلايا في جذوع الأشجار تأوي النحل وهو يصنع العسل. هو بطل في نظر ابنه الصبي الذي رباه وأنشأه عي إحساس كبير بأنه رجل.. في تصرفاته وأقواله وتصديه لأمه عندما تحاول أن تقلل من شأن أبيه وعمله، وتعلن قلقها من غيابه فيقرر الابن الذهاب للبحث عن أبيه بمنطق رجل لا طفل.. وكما أسلفت أن الفيلم يحمل الملامح المحددة لسينما يلماظ جويني الشغف بجماليات الطبيعة وتلقائية الممثلين مما يجعل الصورة محملة بالمشاعر الإنسانية. رومان بولانسكي.. والممنوعون أمثاله الحصار الذي فرض علي المخرج البولندي الأصل رومان بولانسكي واقعده حبيس سويسرا لا يغادر حدودها خوفا من أن يوضع خلف القضبان لحكم قضائي صدر ضده في أمريكا بتهمة اغتصاب فتاة قاصر.. وهو حصار وخوف منعه منذ أعوام من الصعود إلي منصة الأوسكار ليتسلم جائزة الأوسكار عن فيلمه «عازفة البيانو» لم يجرؤ علي مغادرة سويسرا خوفا من السجن. وهو نفس الخوف الذي أبعده عن الذهاب إلي برلين لحضور عرض فيلمه «الكاتب الشبح» الذي اكسبه «الدب الفضي» كأحسن مخرج يوم الأحد الماضي.. ورغم الخوف من السجن ورغم الإحساس بالاضطهاد والمطاردة يجيء فيلم رومان بولانسكي «الكاتب الشبح» تتويجا لإبداع سينمائي رائع لهذا المخرج الذي يطلقون عليه الآن اسم «المطارد المتشرد» وليس غريبا أن يكون الفيلم نوعا من التمرد والغضب من عالم اليوم.. إنه يصور انعدام المشاعر الإنسانية في الحياة السياسية وسيطرة الأنانية وحب الذات والمصالح الفردية علي عالم اليوم وبولانسكي يلوذ هنا بكل إبداعه السينمائي في تفاصيل تركز علي غياب القيم وسيادة الخداع في تعاملات البشر. إن بولانسكي يتعامل مع الصور التي يقدمها في فيلمه بواقعية، خاصة وقد اختار لفيلمه اللون الرمادي الذي يعطي الصورة ضبابية تقبح عالمنا اليوم. الثورة الثقافية ولعل ما حدث وصاحب عرض فيلم بولانسكي «الكاتب الشبح» يذكرني بالمخرج الصيني الكبير «زانج بيمو».. جاء إلي مهرجان برلين السينمائي الدولي في منتصف ثمانينات القرن الماضي لأول مرة بفيلمه «حقول الحنطة الحمراء» ورغم ترحيب إدارة المهرجان بالفيلم إلا أننا فوجئنا بالصين تعلن شجبها لاشتراك الفيلم في المهرجان ولا تعترف أنه يمثلها رسميا.. لقد كان زانج بيمو من زعماء الطلبة الذين تظاهروا في الميدان السماوي ببكين خلال ما سمي «الثورة الثقافية» ومنع من ممارسة إبداعه السينمائي وفرض عليه ألا يمارس أي عمل فني إلا أن يحترف مهنة التصوير الفوتغرافي.. وظل هذا المنع مكبلا له عشر سنوات كاملة قبل أن تتغير الظروف السياسية في الصين.. ويتمكن زانج بيمو من إخراج هذا الفيلم «حقول الحنطة الحمراء» الذي كان يصور أميرة أسيرة يحملها حارسها إلي سجن في بلدة أخري، وتقع المعجزة ويتدخل الحب ليفرض سطوته علي الأميرة وسجانها وهما يجتازان بحرا من «حقول الحنطة الحمراء».. وكانت المفاجأة أن يفوز الفيلم بجائزة «الدب الذهبي» عند إعلان الجوائز، ويعلن بداية تاريخ سينمائي عالمي كتبه زانج بيمو فيما توالي من سنوات.. ففي العام التالي إذا به يحصد جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي بفيلمه الثاني «المصابيح الحمراء» وينطلق فيصبح نجما في سماء المهرجانات السينمائية الدولية الكبري.. برلين وفينسيا وكان بأفلام مثل «جرائم شنغهاي» و«العودة إلي الماضي» و«البطل» ويصبح اسما محظورا في الصين فلا تعرض أفلامه داخلها، إلي أن تقرر أن تقيم الصين دورة «أولمبياد بكين 2008».. وتطلب الصين رسميا عودة زانج بيمو لكي يخرج حفل افتتاح الدورة وحفل ختامها وتعترف له بالإبداع. ولو تركت لذكرياتي مع مهرجان برلين علي امتداد سنوات وسنوات لالتقطت الكثير من أصحاب يلماظ جويني ورومان بولانسكي وزانج بيمو، ممن حملوا لقب «المنشقين» علي مجتمعهم ودولهم وعدم اعتراف هذه الدول بأن أفلامهم تمثلها بصفة رسمية فقد تسبب مخرج سوفيتي في أزمة دبلوماسية بين ألمانياالغربية والاتحاد السوفيتي - وقتها - بفيلم يتناول أخطار تداعي المفاعل النووي في «شيرنوبل» وأقام القيامة بفيلمه.