تميزت ديانات الحضارات القديمة بمحدودية استخدام التعبير اللغوي في الاتصال بالمقدس، وفي المقابل فإن انجازاتها المعمارية وطقوسها الفنية تبدو هائلة وبالغة الثراء فحتي اليوم تثير منجزاتهم الحيرة والتساؤل عن كيفية تنفيذها، فمن انصاب «استون هيدج» في انجلترا إلي أهرامات المكسيك والجيزة المصرية وتمثال أبوالهول وما يعرف بأسرار الديانات الأورفية والايليوسية والتي كانت تنصب في جوهرها علي احتفالات جماعية تعزف فيها الموسيقي المصحوبة بالرقص والغناء وارتداء الاقنعة وأزياء الخاصة مع تقديم الأضحية والقرابين. جميع هذه الطقوس تشير إلي أن أنبياء وكهنة هذه الأديان كانوا مبدعي فنون وصناع مهرة وسحرة بارعين، ولم يكن عملهم مجرد فن ديني ولكنه كان دينا فنيا بمعني الكلمة، ولقد ابتغوا من خلال ممارستهم الإيجابية وطقوسهم ومبادرتهم لمحاكاة ايقاعات الطبيعة التمكن من السيطرة علي مجريات الأحداث والتحكم في مظاهر الطبيعة ودورتها المتعاقبة وظنوا أنه بوسعهم التحكم في تبدل الفصول وهطول الأمطار وتحقيق وفرة في المحاصيل أو تجنب حدوث الزلازل واخماد البراكين الثائرة والوقاية من الأوبئة وإبادة الاعداء. ولقد أوضح جيمس فريزر مؤلف الغصن الذهبي مراحل التحول الثلاث من الاعتقاد في السحر إلي الدين ثم العلم الحديث، وكيف كان السحر يمثل الصورة البدائية للعلم الحديث والذي كان يستهدف من خلال أفعال معينة التأثير علي مجريات الواقع الخارجي والهيمنة علي قوانين الطبيعة فالساحر يمتلك نفس الإرادة التي تحرك الباحث الحديث، ولكن كانت معرفته منقوصة وخرقاء. تدلنا منجزات الحضارة القديمة علي الصلة الوثقي والترابط القوي بين كل من السحر والفن والصنعة، فحتي اليوم نقدر في الفن العظيم براعة الصنع وأيضا إشعاعه بالسحر والفتنة، ونري كيف يعتني السحرة بإحاطة أنفسهم بمظاهر طريفة من عالم الفن وأدواته وألوانه البراقة المثيرة للدهشة ولكي نتمكن من الإحاطة بأبعاد العلاقات المعقدة والمتحولة بين تلك المجالات الثلاثة الفن والسحر والدين من الأفضل الاستعانة بعلم النفس الفرويدي الذي يقدم لنا عبر تطور مراحل الطفولة نموذجا يمكن مطابقته مع تطور الحضارة البشرية فمن المعروف أن الطفل يعكس في نموه صورة موازية ومماثلة لتطور الحضارة فعقب بلوغ الطفل عامه الثالث يبدأ في امتلاك ناصية أفعاله ويعي استقلالية وجوده الذاتي ومع تنامي قدراته الناشئة والمتسارعة يكتسب شعورا بأنه يمتلك حرية مطلقة وبأنه كلي القدرة وأن فاعليته وحريته بلا حدود، ثم مع توالي اصطدامه بأوامر ونواهي الوالدين الصارمة وزجرهم له ومعاينة القوة العالم الخارجي المحبطة والباطشة فإنه وإلي أن يبلغ السنة الخامسة يتشكل لديه ما يعرف بالكف الذي يكون لديه الكبت والامتثال للسلطة الاجتماعية. إذا عدنا إلي عالم الحضارة سنجد أن الحضارات الأولي تكاد تتطابق مع مرحلة الطفولة الأولي باندفاعها الفتي المتحمس لشتي الجهود المبتكرة في العمارة والنحت وتنامي معرفتها في فنون السحر والكهانة والعرافة والتنجيم وبداية إنشاء وتأسيس المدن وسن القوانين المدنية وإقامة الأعمدة والأنصاب الضخمة لتبجيل الالهة علي الهضاب المرتفعة. ذلك كان الغرور الساذج للنوع الإنساني في خطاه الأولي مبتعدا عن أمه الطبيعة إذ ظن بنفسه القدرة علي تخطي جميع الصعاب بجهده وكفاحه وفطنته الخاصة. ولكن سرعان ما تسلل الوهن والانحلال إلي هذه الحضارات وشاهد ابناؤها بأم أعينهم منجزات آبائهم واجدادهم يتسلل إليها التدهور، والتآكل، وتبينوا عجزهم عن درء خطر الأوبئة الفتاكة والفيضانات العارمة والزلازل وغيرها من قوي الطبيعة، برغم كل نشاطهم ومهاراتهم. هنا بدأ الشك يدلف متسللا إلي قلوبهم ليقوض ثقتهم في أنفسهم، وليفتح الطريق أمام منعطف حضاري جديد يتخلي فيه الإنسان عن ثقته المطلقة في امكانية تحقيق خلاصة الفردي أو نجاته الجماعية بواسطة فعله الخاص أو جهوده الذاتية، لكي يتوخي الخلاص من خلال تسليمه المطلق لفعل النعمة الالهية وحدها وليس عن طريق غرور بره الذاتي، أنها مرحلة الكف والكبت الذاتي التي اتت بها حقبة ظهور الأديان السماوية وهنا نشأت نظرة جديدة تجاه الفن والسحر. ولعل خير ارهاص ادبي أشار إلي هذا التحول كان في أسطورة أوديب الذي فقأعينه يأسا وتسليما بعجزه عن تغيير قدره رغم كل ما بذل من جهد في الفرار منه بإرادته لكي يتجنبه.