في 2008 قرر الفنان البريطاني داميين هيرست والذي يعتبر أغني فنان في العالم بثروة تقارب ربع بليون جنيه استرليني، أن يطرح معرضه الأخير المسمي " الجمال في داخل رأسي إلي الأبد " للبيع مباشرة إلي مقتني الفن من خلال مؤسسة سوثبي الشهيرة للمزادات بدلا مما هو متبع بالبيع من خلال صالة العرض أو الوسيط، وقد حقق بيع الأعمال التي طرحت للبيع مبلغ 111 مليون جنيه استرليني متجاوزة الرقم الذي كان مقدرا من قبل مؤسسة سوثبي بمراحل ومحققا رقما قياسيا جديدا في بيع أعمال فنان واحد. أول ما يسترعي الانتباه في هذا هو أن البيع ليس مباشرة من الفنان إلي المقتني ولا يحزنون كما يدعي هيرست فقد استبدل في عملية البيع قاعة العرض بمؤسسة سوثبي وكلاهما يقتطع لنفسه نسبة من المبيعات تتجاوز الثلاثين بالمائة، كما أن مؤسسة سوثبي بالقطع أقوي وأشهر من أية قاعة عرض علاوة علي أن هيرست قد ضمن أن يواكب البيع عملية دعائية ضخمة وهو ما أتي ثماره برقم قياسي في عائد المبيعات. يوصف هيرست بأنه رجل أعمال من الطراز الأول وهو من أكثر الفنانين المعاصرين حماسا في تشجيع الاستثمار في الفن، ومن أهم صفات رجل الأعمال المعاصر هو معرفته التامة بعلم التسويق، وعندما نذكر كلمة التسويق فإن أول ما يتبادر للذهن هو حملات الدعاية أو مبادرات تنشيط البيع من نوعية اشتر واحدة وخذ الثانية مجانا أو لماذا تدفع أكثر إذا كان بإمكانك أن تدفع أقل وغيرها من الأساليب التي أصبحت تطاردنا أينما ولينا في عصر الفضائيات والمحمول والإنترنت، ولكن الحقيقة هي أن التسويق دراسة واحتراف وهو أعقد من هذا بكثير، وإدارة التسويق في المؤسسات الكبيرة من الإدارات المحورية، فوحدة أبحاث السوق في هذه الإدارة تقوم طوال الوقت بأبحاث مكثفة عن احتياجات السوق واإتجاهات المشترين وتنبؤات الاقتصاد وموقف الشركات المنافسة وتصب النتائج في وحدات الأبحاث والتطوير التي تأخذها في الاعتبار أثناء تصميم أو تطويرالمنتج . العناصر الأربعة التي تكوّن مادة التسويق هي أولا: المنتج أو السلعة، وثانيا: سعر البيع ، وثالثا: حملة الدعاية، ورابعا: التوزيع ومنافذ البيع، وتحتوي الخطة التسويقية المتكاملة علي تفاصيل كل هذه العناصر. المنتج أو السلعة في حالتنا هي العمل الفني وقد يستنكر البعض تسمية جيوكندا دافنشي أو جورنيكا بيكاسو بالسلعة ولكن تعريف السلعة هي أي شيء يمكن أن يتداول بالبيع والشراء ولحسن حظ الإنسانية فإن ما تم تصنيفه علي أنه تراث إنساني مثل رأس نفرتيتي مثلا قد أفلت من هذا التصنيف وأصبح يوصف بأنه لا يقدر بثمن، ولكن معظم الأعمال الفنية سواء لفنانين من عصور سابقة أو معاصرين يخضع تماما لهذا التعريف. أما سعر البيع فهو يمثل في حالة الأعمال الفنية مشكلة عويصة، فليس هناك مقياس واضح إذا قارنا هذا بسلعة مثل السيارة مثلا التي يمكن عقد مقارنات سعرية بين سيارة وأخري بناء علي مواصفات متعارف عليها، فالسعر في حالة المنتج الفني يتحدد بالإدراك الحسي وليس بالمفاضلة أو المقارنة المنطقية بناء علي مواصفات معيارية. ويتحدد السعر عادة في الأعمال الفنية بناء علي تقييم مجموعة المشتريين المحتملين وخبراء التثمين المتخصصين. ويعتمد تقييم السعر في الأعمال الفنية علي ثلاثة عناصر، الأول هو الوضع الاجتماعي الذي سيضيفه اقتناء العمل إلي المقتني وهو ما أسميه عنصر المباهاة، وهو يأتي من القيمة الفنية المتعارف عليها للفنان صاحب العمل، والثاني هو القيمة الفنية للعمل ذاته مقارنة بالأعمال الأخري طبقا للمقاييس الفنية المتعارف عليها وأثر هذا العمل علي المحيط الفني المعاصر أو اللاحق كأن يكون هذا العمل مثلا بداية مرحلة أو مدرسة فنية جديدة ، والثالث هو الربح المتوقع من الزيادة المتوقعة في سعرالعمل الفني. وعادة ما يحدد هذه العناصر ثلاث مؤسسات اقتصادية أولا خبراء الفن مثل أصحاب المعارض ومديري المتاحف ونقاد ومؤرخي الفن، وثانيا رجال الأعمال والمقتنون الذين يستثمرون في الفن، وثالثا المؤسسات المالية مثل البنوك وشركات المال التي تستثمر في الأعمال الفنية. عمليات الدعاية تأخذ أشكالا متعددة من الدعوات المباشرة عبر البريد العادي أو الإلكتروني أو الإنترنت والملصقات إلي الصحف والفضائيات، كما تتضمن أيضا حفلات الاستقبال والمطبوعات بكل أشكالها. منافذ البيع للأعمال الفنية هي أساسا قاعات العرض الخاصة ومؤسسات البيع عن طريق المزادات والمقتنين والوسطاء والفنانين أنفسهم وفي الآونة الأخيرة دخلت الإنترنت بقوة كأحدي القنوات الفاعلة في عمليات البيع خاصة من الفنان إلي المقتني مباشرة. يستعمل هيرست جميع عناصر التسويق بمهارة عالية فهو يعشق الظهور ودائم التحدث في وسائل الإعلام ويعشق الفرقعات الإعلامية وتم اتهامه بسرقة أفكار الآخرين، وكادت تصل هذه الاتهامات إلي القضاء إلا أنه تصالح فيها بدفع تعويضات خارج المحكمة. عام 2002 في الذكري السنوية لهجمات سبتمبر علي برجي مركز التجارة صرح للصحف بأن مرتكبي الحادث يثيرون الإعجاب فقد صمموا هجومهم بأسلوب بصري وصل إلي الهدف المطلوب ببراعة وقد عرضه هذا لهجوم كاسح اضطره بعدها بأسبوع للاعتذار وإبداء ندمه علي تصريحه. أسماء معارضه وأعماله منتقاة بحيث تحدث زخما إعلاميا، فقد كتب في 1997 وهو في سن الثانية والثلاثين كتابا عن حياته الشخصية وفنه وأسماه "أريد أن أقضي المتبقي من حياتي في كل مكان، مع الجميع، واحد لواحد، دائما، إلي الأبد". في عام 2007 حصد هيرست الرقم القياسي لأغلي عمل فني لفنان علي قيد الحياة عن عمله المسمي" أغنية المهد الربيع" وهي عبارة عن فترينة عرضها ثلاثة أمتار بها 6136 حبة دواء وقد اقتناها مقابل 19 مليون دولار أمير دولة قطر، وستصبح قطر لاحقا الراعي الرسمي لمعرض هيرست الاستيعادي الضخم في متحف التيت مودرن والمقام حاليا بالعاصمة البريطانية. وفي نفس العام 2007 صنع هيرست أغلي أعماله والمسمي " في حب الله " وهو عبارة عن مستنسخ لجمجمة بشرية مصنوعة من البلاتين ومرصعة بقطع من أحجار الألماس يبلغ 8601 قطعة وقد تكلفت صناعة هذا العمل 14 مليون جنيه استرليني وقدرله سعر بيع يبلغ 50 مليون جنيه استرليني! ولكنه فشل في الحصول علي هذا السعر وأعلنت الصحف أن هيرست يحاول بيع العمل مقابل 38 مليون فقط إلا أن هيرست نفي هذا، وأفاد أن العمل اقتنته مجموعة من الممولين ( كونسورتيوم ) بالسعر الأصلي ثم تم الكشف عن أن هيرست نفسه واحد من المجموعة التي اقتنت العمل! نكتشف من خلال مسيرة هيرست ماذا يحدث عندما يطغي الاستثمار في معادلة العمل الفني كسلعة علي ما عداه، وكيف تصبح المضاربات والاستثمارات المالية هي المحرك الرئيسي في سوق الفن، وكيف تلعب مؤسسات التسويق وآلة الدعاية الضخمة دورها في صنع القيمة السعرية للأعمال الفنية. تعليقا علي "في حب الله" كتبت الناقدة جيرميين جريير في جريدة الجارديان فقالت" إن داميين هيرست علامة تجارية ضخمة، لأن الشكل الفني في القرن الواحد والعشرين هو التسويق... لكي تطور علامة تجارية ضخمة من فكر واضح الهشاشة فهذا منتهي الإبداع وربما حتي الثورة."