* المتابع لتحركات جماعة الإخوان المسلمين في مصر لاسيما منذ بدء الحملة الرسمية للدعاية الانتخابية يدرك علي الفور قدرة الجماعة الفائقة والهائلة علي التنظيم والإعداد * الدكتور محمد بديع منح للإعلام فرصة ذهبية حينما نعتهم بأنهم سحرة فرعون فجعل الإعلاميين دونما قصد مباشر يمارسو كل فنون السحر من دهشة ومراوغة واقتحام مناطق جديدة للحوار والمناقشة * التغلغل السلطوي لفصائل الإسلام السياسي أظهر لنا استهانتها بعقول الناس الذين صدقوا وعودهم السياسية قبيل الانتخابات التشريعية ولم تتحقق ثم إلقاء اللوم علي الحكومة ومن ثم قامت معركة سحب الثقة منها وُجِهَتْ إلىَّ دعوة في نهاية شهر أبريل لحضور المؤتمر الجماهيري الشعبي الحاشد للدكتور محمد مرسي علي حد وصف ما جاء في الدعوة، وهذا المؤتمر كان في إحدي محافظات شمال الصعيد، ولغرابة المشهد أن إعداد وتجهيز المؤتمر قد شابه لغط وشد وجذب وتوتر مستدام، فمكان المؤتمر الذي أعد كان الملعب، وفؤجئ الأعضاء قبل المؤتمر بيوم واحد بدخول أكثر من أربعمائة شاب يقومون باقتحام الملعب وتعليق البوسترات باعتبارها كلمة السر في انتخابات الرئاسة، ولأن أيضاً آلاف المواطنين من المحافظة يعرفون اسم الدكتور محمد مرسي لكنهم لا يعرفون صورته بحكم أن المحافظة التي أقيم فيها المؤتمر أعطت أصواتها طوعاً للدكتور سعد الكتاتني في الانتخابات التشريعية من أجل المشاركة في غزوة الصناديق ونيل شرف الجهاد السياسي. وبالتأكيد قام هؤلاء بإعداد المكان لاستقبال المرشح المحتمل رغم أنهم كعادتهم لم يلتزموا بقواعد وبروتوكولات الموافقة ولم يأخذوا رأي الجمعية العمومية للنادي لإقامة المؤتمر، واكتفوا بموافقة رئيس النادي لأسباب انتخابية بالقطع، المهم أن الأغلبية الصامتة وأنصار حزب الكنبة كعادتهم لم يكترثوا كثيراً لأمر الموافقة علي انعقاد مثل هذه المؤتمرات باعتبار أننا أصبحنا في وطن يحترف الفوضي، وكان علي الجماعة نفسها أن تعطينا درساً مشهوداً في اتباع الديمقراطية العلمانية التي صعدت بهم إلي البرلمان وأخرجتهم من سنوات الظل والاستلاب إلي بؤر النور والضوء، وذلك حينما يقومون مثلاً باستطلاع للرأي في إقامة هذا المؤتمر، ولكن هذا لم يحدث . وربما كنت أظن أن أعداد الموجودين بهذ المؤتمر لن تكون كبيرة، لاسيما أنني أعلم أن مواطني معظم محافظات الصعيد دون استثناء إلا من رحم ربه لا يجيدون لعبة السياسية والانتخابات بل تكاد تكون علاقتهم بالانتخابات الرئاسية كعلاقة ابني الصغير بالشطرنج وهذا ليس فطرة فيهم بل بسبب سياسات مبارك ونظامه السياسي والإعلامي الذي استهدف الاستبعاد الاجتماعي والسياسي للصعيد ومدن القناة كبورسعيد والسويس عن المشهد السياسي بالعاصمة، لكن كانت الأعداد غفيرة وكبيرة رغم هطول المطر الذي اعتبره المريدون للجماعة بشارة خير للفوز الاستشرافي، فرأيت أعلاماً تسد السماء، بعضها علم مصر، وبعضها علم الإخوان المسلمين، وبعض الأعلام لحزب الحرية والعدالة، وهذه الظاهرة الاحتفالية التي قد تمر علي كثيرين مرور الكرام إلا أنني رأيت فيها نوعاً من التمييز والعنصرية والاستبعاد لفصائل سياسية أخري . القدرة علي الحشد المتابع لتحركات جماعة الإخوان المسلمين في مصر لاسيما منذ بدء الحملة الرسمية للدعاية الانتخابية يدرك علي الفور قدرة الجماعة الفائقة والهائلة علي التنظيم والإعداد، ولا أكاد أستطيع أن أخفي إعجابي بهذه الإمكانية التي تنفرد بها الجماعة، ويزداد عجبي لهذا الهوس المحموم الذي رأيته من أنصار الجماعة الذين هم بالقطع أعضاء الحزب، فالهتافات والتصفيق والتلويح بالأعلام توحي في البداية بأعراض هيستيرية مرضية، لكنني سرعان ما قوضت هذه الفكرة حينما رأيتهم يقومون بالهتاف بطريق جمعية واعية يشبهون في ذلك ألتراس الفرق الرياضية . ولا يعنيني ما عرضه مرشح الجماعة والحزب الذي لم يكن في الأساس محل نظر واهتمام الجماعة لأنهم بالفعل صدموا الشارع المصري بإعلان المهندس خيرت الشاطر مرشحاً رسمياً لها رغم وعودهم وعهودهم بأنهم لا ولن يخوضوا لعبة الانتخابات ولكن للكرسي سحراً لا يقاوم لاسيما أنهم في مرحلة تاريخية عظيمة لن تتكرر لهم مرة جديدة، بل وربما يراودهم هاجس الظل الذي كانوا فيه طيلة عقود منصرمة، والكلام الذي يقوله الدكتور مرسي هو نفسه الخطاب المكرور للشاطر، مع اختلاف الوجوه واللحي، كما أن الخطاب السياسي للدكتور محمد مرسي لم يخرج عن الأطر الأيديولوجية لفكر الجماعة ومنطقها الذي يميل إلي المراوغة أكثر من ميله إلي المصارحة والمكاشفة، وهم يعتمدون في مشروعهم النهضوي الذي ظهر فجأة وبدون سابق إنذار رغم أن مكانه البرلمان الذي بدأ يفقد بريقه نهائياً علي سذاجة الناخبين والضغط علي وعيهم الجمعي في التحشيد والتهليل والتصفيق من خلال التشدق بعبارات دينية جهادية وكأن مصر تعيش وثنية جديدة ولم يدخلها التوحيد بعد. ولأن تصريح المرشد الحصري الذي وصف به الإعلاميون بأنهم سحرة فرعون رغم أنهم آمنوا برب موسي، قد أغضب فئات كثيرة من الصحفيين ومقدمي البرامج الحوارية والمراسلين، لم يدركوا أن هذا التصريح لم يكن مفاجأة أو علي غير اعتياد من جماعة تطلق تصريحاً وتفعل آخر، وربما أن هؤلاء الذين غضبوا من إلصاق سبة سحرة فرعون بهم لم يعوا أن تلك التصريحات وغيرها لا تصدر إلا من عقليات تقبع في كنف الماضي السحيق ولا تغادره، وربما هذا التأخر هو الذي دفع الجماعة إلي الركون طويلاً خلف الصفوف غير مشاركة في أحداث ثورة الشعب المصري، ومن الملفت أن الجماعة لم تقدم شهيداً واحداً في جمعة الغضب الأولي . الهجوم كعادة كرنفالات الكهنة في مصر الفرعونية أن تبدأ بالهجوم علي الطوائف المناهضة للملك وهذا ما حدث بالفعل، فلقد سمعت أغاني تندد بالفلول وبالحزب الوطني المنحل الذي ربما قد يعود كما عادت الجماعة فالسياسة لا تؤمن بالثبات والجمود، وكان من باب أولي أن تقوم الفرقة الغنائية الإخوانية بتقديم أغان تخص برنامجهم النهضوي فحسب، لكن يبدو أن الفلولية باتت عقدة متأصلة بعقل وذهن الجماعة. وهؤلاء الذين اتخذوا شعار " نحمل الخير لمصر " كان من الأحري عليهم أن يقدموا ولو جزءاً صغيراً من هذا الخير، بدلاً من التصريحات التي أصدرها الدكتور محمد مرسي مثل استطاعته في استقطاب 200 مليار دولار استثمارات في مصر وهو رقم عجيب وغريب وفريد، وحينما سئل عن سبب تأخر دخول هذه الاستثمارات كانت الإجابة المنطقية والمنتظرة عن رضا وقبول بأن المستثمرين متخوفون بشأن عقد اتفاقيات اقتصادية مع حكومة مهددة بالإقالة أو رهن الاستقالة . لقد منح الدكتور محمد بديع للإعلام فرصة ذهبية حينما نعتهم بأنهم سحرة فرعون، فجعل الإعلاميين دونما قصد مباشر منه يمارسون كل فنون السحرة من دهشة وسحر وفنون مراوغة ودخول خنادق مجهولة واقتحام مناطق جديدة للحوار والمناقشة . هذا كله ولم تغب عنهم حقيقة أضافها إليهم جماعة الإخوان بأنهم سحرة فرعون أي أنهم مقربون من الملك والقوة والجاه والنفوذ، باختصار حتي والإعلاميون في موضع الهجوم عليهم محظوظون. الاستحواذ علي المشهد ولكن لماذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين مرفوضة من جانب كل الفصائل السياسية حتي الدينية منها وكذلك من بعض القوي والتيارات الشعبية الآن ؟ سؤال يطرح نفسه بقوة علي المشهد السياسي الراهن، بل تتباري البرامج الفضائية هذه الأيام والأسبوع الماضي المنصرم في الإجابة عن هذا التساؤل الذي يحمل في طياته الإجابة البليغة عنه .فمنذ إعادة ظهورة الجماعة في نسختها الشرعية عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير وهي تعاني بعض اللغط السياسي لها لاسيما وأن حالات المد والصعود التي صادفت هذا الظهور كانت سريعة. والنقد الذي يوجه للجماعة الآن ليس مفاده عدم المساندة الحقيقية للثورة، أو بلغة تقارب الصواب التباطؤ في مشاركة ثوار مصر ثورتهم الشعبية ضد النظام السابق، وليس سبب النقد أيضاً هذا التخاذل في مشاركة جموع المصريين في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وهرولتهم المتسارعة نحو غزوة الصناديق المزعومة، وربما لا أزعم أن شهداء المذبحة الرياضية ببورسعيد خلوا من أي إخواني لأنهم باختصار لا يميلون لرياضة كرة القدم التي هي بالضرورة في نظرهم مضيعة للوقت وأشبه بالقمار الجسدي . وبدا الآن جلياً مطامح الإخوان نحو السلطة بل اقتناصها قنصاً عن طريق مخططاتهم التحشيدية نحو الصناديق والتي بالعادة ستشهد انحساراً مشهوداً لأنصار الأغلبية الصامتة الذين استمرأوا صمتهم وتقاعسهم عن المشاركة في صنع البلاد. والأمر الذي يدعو للدهشة أن مرشح الجماعة الذي يصر علي أنه مرشح لفصيل طائفي معين وليس لكل المصريين لم يكن في الصورة السياسية حتي منذ قيام حزب الحرية والعدالة، فتصريحاته كانت قليلة للغاية . ولكن فكرة وجود مرشح إخواني بحجم رئيس الحزب نفسه تؤكد أن الجماعة الدينية احترفت العمل السياسي وهم علي يقين بأن الحالة الراهنة لم ولن تتكرر لهم في تاريخ مصر، لأنه باختصار هناك رفض جماعي من قبل فصائل بعينها ربما منها فصيل القوات المسلحة بشكل عام وليس مجلسها الأعلي فحسب وكذلك قطاع الشرطة وائتلافات الليبراليين والأقباط طبعاً لا يحبذون وجود سلطة دينية سياسية لأن كلاهما الدين والسياسة سيفسدان حتماً، لتعارض وتباين الرؤي السياسية غير المستقرة مع الثوابت الدينية القاطعة والملزمة بغير قوة القانون. لكن بعد هذا التغلغل السلطوي للجماعة تبين لنا استهانتها بعقول الناس الذي صدقوا أولاً وعودهم السياسية قبيل الانتخابات التشريعية ولم تتحقق بالقطع والجماعة بدورها ألقت عبء اللوم علي كاهل الحكومة بوصف الأخيرة هي التي تجتهد في تعطيل الأهداف المجيدة للجماعة . والذي يؤكد ويدلل علي أن الجماعة هي التي تسعي إلي الوصول جاهدة لسدة الحكم وليس أطرافها بعينها منهم، أن المهندس خيرت الشاطر أعلن أنه لم يكن ينتوي الترشح مثله كمثل الرئيس السابق مبارك لولا قرار الجماعة، الدليل الثاني هو حالة الغياب المستدامة للدكتور محمد مرسي قبيل حملات دعاية مرشحي الرئاسة، الدليل الثالث هو أن مشروع النهضة المزعوم والمنتسب للجماعة أصبح شعاراً للدكتور محمد مرسي بديلاً عن المهندس الشاطر، إذن فكلاهما كانا يعبران عن فكر فصيل سياسي ذي توجه ديني أو مسحة دينية وليس فكرهما الشخصي. وخطير جداً أن حملة الإخوان للدعاية نحو الانتخابات قد بدأت بصورة نقدية لوضع كان قائماً في الماضي، فالمتابع لخطب الدكتور محمد مرسي في جولاته الانتخابية يكتشف أنه وأعضاء حملته لايزالون واقفين عند حدود ما قبل الخامس والعشرين من يناير قبل الماضي، فهم يتحدثون عن فساد وظلم وقهر وترهل النظام السابق. فجملة أحاديث الجماعة أن النظام السابق فاسد، والحكومات السابقة متخاذلة ومتواطئة، وحكومة الإنقاذ الحالية ذات أياد مرتعشة، والمجلس العسكري راحل راحل، ولا مكان لليبراليين في مشروع النهضة، فبالله هل هذا هو المشروع نفسه ؟ أم أن هذا الفصيل الديني السياسي لا يمتلك مشروعاً من الأساس، والأمر مجرد احتراف لهواية النقد والاعتراض؟ وربما من أميز ما تختص به الجماعة الآن أنها بعدت تماماً عن كل ما يشير إلي الفكر الديني أو المرجعية الدينية، وهذا في عرف السياسة يعد تضليلاً وخداعاً ومكراً سياسياً، فالجماعة التي تستهدف الحصول سريعاً علي كرسي الحكم في مصر استشرفت المشهد السياسي ووجدته محموماً ومستعراً برؤي وأفكار لم تعد تتمسح في عباءة الدين، بل إنهم وجدوا بعض المرشحين الإسلاميين مثل الدكتور محمد سليم العوا وعبد المنعم أبو الفتوح، مع كامل الاعتذار لمصطلح الإسلاميين الذي يؤكد إسلامية مجموعة وتكفير مجموعات أخري، بل وجدناهم يدشنون لمشروع نهضوي مدني لأن الساحة السياسية باتت مؤهلة لقبول ذلك، رغم أن الجماعة بوصفها دينية منذ المولد والنشأة إلا أن السياسة لعبة لا تعترف بالثوابت والمظان الذهنية الثابتة. الأمر يبدو مختلفاً لدي الجماعات الإسلامية والتيارات السلفية التي قضت معظم سنواتها خلف الأسوار ومن خرج منهم ظل بعيداً عن المشهد السياسي ومنهم من رضخ لقمع السلطة الأمنية آنذاك فقام بفقه المراجعات التي تطلبت منهم الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبوها في الماضي وبقصورهم في فهم وتأويل بعض النصوص الفقهية. ولكن معظم هؤلاء لم يقترفوا نفس الذنب بدغدغة مشاعر المواطنين وبتقديم الوعود الوردية بحياة أفضل، بل كانوا أكثر واقعية في رؤية المشهد السياسي الراهن وما تتبعه من متغيرات اجتماعية مرتبطة بهذا المشهد، بل وإن منهم الآن من يدعو إلي تنحية الجانب السياسي بعيداً بسبب ما ألقته في وجه مصر من فتن ومثالب ويبدو أنهم في ذلك اتبعوا المثل السائر من خاف سلم .