عام 1938 أصدر طه حسين كتابه العمدة "مستقبل الثقافة في مصر" وفيه شرح العميد كيف يمكن للمحروسة أن تخرج من نفق الأزمنة المتخلفة، لتحلق في فضاء العصر الحديث مثل غيرها من الأمم الناهضة. كان مشروع طه حسين يرمي إلي فتح النافذة "البحرية" أمام مصر لتلتقي ثقافة الحداثة الأوروبية، حيث المناهج العصرية في التعليم، وحيث الحياة العقلية تزدهر وتتألق دون خشية من دعاوي تحريم أو خناجر تكفير، حيث الديمقراطية واحترام حرية التفكير والتعبير والعقيدة، وحيث الناس ثمة يجرءون علي وضع كل شيء موضع المساءلة. اليوم وبعد مرور أكثر من سبعين عاما، لا يزال هذا المشروع الثقافي المهم حبيس دفتي الكتاب. تجاهه وقد لا يكون مستغربا أن يتجاهل النظام السياسي في مصر - منذ 1952 وحتي الآن - هذا المشروع بل ويسعي إلي طمسه لأسباب نوجزها فيما يلي : أولا : في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، طالما اعتقد النظام أن مشروع طه يتناقض مع الدعوة للقومية العربية ( = الغطاء الأيديولوجي لرأسمالية الدولة الناصرية ) تلك الدعوة التي كان متوقعا لها أن تقوم وحدة العرب من المحيط إلي الخليج ! ثم جاءت هزيمة حزيران العسكرية لتمثل مؤشرا لا غش فيه علي استحالة الوحدة السياسية بين الدول العربية غير المتكافئ تطورها ، ومن ثم تشرذمت القوة الاقتصادية بين لاهث منفرد خلف أوروبا وأمريكا( دولة قطر مثالا لا حصرا ً ) وبين منكفئ علي ذاته يلعق جراحها حائرا ً أيان يتجه ( الصومال - موريتانيا ) وفي هذا المساق ظهر ما يسمي بمجلس التعاون العربي ومجلس التعاون الخليجي ومجلس التعاون المغاربي ... الخ والناتج : تجميد " الدعوة للقومية العربية " في ثلاجة التاريخ ، مع استمرار تجاهل النظام المصري للمشروع " الطحسنىّ " . ثانيا : مع الانقلاب الأبيض الذي قام به نظام يوليو ضدا علي نفسه فيما بعد حرب أكتوبر، تصور النظام أن التسليم بفكرة المركزية الأوروبية / الأمريكية - مع مقتضياتها بقبول التبعية اقتصاديا وسياسيا - هو وحده المتاح حتي لو كان الثمن الابتعاد أكثر وأكثر عن شعار القومية العربية . وقد جري هذا بقيادة من ُأسموا بالانفتاحيين ، وكانوا في حقيقتهم مجرد " كومبرادور " أي وسطاء للشركات العالمية الكبري لا علاقة لهم بالمغزي الحضاري لمشروع طه حسين ، وعليه فلقد كان منطقيا بالنسبة للنظام الساداتي / المباركي الاحتفاظ بالنسق الاستبدادي للدولة دون اكتراث للاستحقاقات الليبرالية المفترضة في أي نظام يطلب الانفتاح . ثالثا : بقيام ثورة يناير 2011 تعالت في الأوساط السياسية أصوات تدعو إلي مشروع مختلف للنهضة ، قوامه تأسيس شركات تجارية وبناء مؤسسات فوق وطنية جديدة بتمويل أجنبىّ تحت عمامة إسلامية اندفعت وراءها العامة بتوهم منها أن فيها الخلاص . ومن الواضح أن هذا المشروع فيه تجاهل لخصوصية مصر ، بل هو قاصد قصدا ً لإلغاء هذه الخصوصية لحساب ما يسميه أصحابه بإعادة نظام " الخلافة " تمهيدا ً لإجبار العالم المعاصر أن يقعد مقاعد التلمذة أمام الأساتذة الإسلاميين الجدد ! وما من شك في أن هذا المشروع المغامر خاصة في إحدي مظانه ( الشاطر - قطر - رأس المال اليهودي ) لكفيل بتسليم قناة السويس " الشريان التاجي " لمصر ومن بعدها سيناء لأعداء البلاد الاستراتيجيين ليقعدوها هم مقعد التلميذ البليد الذي رسب مرتين في نفس الامتحان ، مرة أيام دليسبس ومرة أيام الشاطر ! قيم التعاون لقد أنتجت مصر ثقافتها الأصيلة فقط في عصر ما قبل الأسرات ، حين ترسخت في نفوس المصريين الأوائل قيم التعاون المشترك ، والسماحة الدينية الحقة ، والوداعة التلقائية الباذخة ، والفرح البليل بنعمة الحياة ، والشكر الصادق للطبيعة علي هباتها ، وبالممارسة الواعية لمبدأ القبول الحضاري بالآخر المختلف، هذا القبول الذي لولاه ما انصهرت في بوتقة واحدة السلالات الأولي المولدة من الأحباش والنوبيين والليبيين والمهاجرين الساميين والأرمن ، فمن هذه الثقافة البكر بزغت حضارات عظمي ( بالمعني الإنساني للكلمة وليس بالمفهوم التقني المحدود ) هي حضارات دير تاسا والبداري في الصعيد ، والفيوم في مصر الوسطي ، و المعادي وحلوان ومرمدة بني سلامة في الوجه البحري. أما ما تلا عصر ما قبل الأسرات هذا ، وجراء ظهور الدولة المستبدة المهيمنة فلقد بات علي المصريين أن يستهلكوا - حسب - ثقافة أولي الأمر فراعنة كانوا أم إغريقا أم رومان أم عربا ً، وما كان لهم أن يعيدوا إنتاج ثقافتهم الأصيلة ، بله إبداع ثقافة جديدة بينا هم محكومون غير مخيرين . فهل تدرك ثورة يناير أن زمنها هو الوقت الذي ينبغي فيه إعادة النظر في أمر الهوية التي لا قيام لنهضة من دونه ؟ ولعل هذا الإدراك المنتظر أن يكون الدرب القويم نحو ابتعاث وعي كان في بداية التاريخ هو المنشئ لوحدة مصر طوال العصور ، ولعله إذا تمت استعادته اليوم أن يؤسس للبناء الحضاري الثقافي المعاصر باعتبار أنه هو دون مراء المؤسس لنظام ديمقراطي لا شبهة فيه . عربات النوم لقد ظل المثقفون- طوال السبعين عاما التالية لصدور كتاب طه حسين - راقدين في عربات النوم، أو منتظرين في السبنسة أن تسحبهم جميعاً قاطرة ُ السياسة ، بدلا من ممارستهم لوظيفتهم الحضارية كطلائع للسياسيين . لكن هذا الوضع المعكوس لن يظل قائما أبد الدهر . فلقد أيقظت ثورة يناير العقل المصري من سباته ، حتي أنه صار مأمولا ً أن يراجع مواقفه من فكرة " القومية العربية " الناصرية " جنبا إلي جنب سياسة الانكفاء علي الذات " الساداتية " ( المؤدية حتما إلي التبعية ) فضلا عن صحوته الحالية تجاه المشاريع الإسلاموية " الشاطرية " وإن بقي أن يتخذ إزاءها جميعا معالجاتٍ نقدية لها وزنها وقيمتها . هنا تتطلع الأبصار نحو المجلس الأعلي للثقافة في مجلس إدارته وداخل لجانه المتخصصة لكي يبادر بفتح الأبواب أمام حوارات واسعة حول دور المثقفين في تعديل المسار التاريخي الذي ضل سبيله منذ غزا الفرسُ مصر عام 526 ق.م لتدرك مغزي تواصل اللقاءات الدورية بهذا الصرح الثقافي وغيره من دوائر فكرية وأدبية.. وإنه لو فعل لأمكن تفعيل قدرات المثقفين علي رسم استراتيجية جديدة ، عنوانها : مصر أولا ، حيث مستقبل ومصالح وأمن شعبها فوق كل اعتبار.