لم يكن الراحل الجليل بيومي قنديل يميل إلي الترجمة، رغم إجادته لعدة لغات، ومع ذلك كان يضحي بوقته ويسارع بترجمة الكتاب الذي يؤكد نظرته للحضارة المصرية. ولأنه كان يري أنّ عالم المصريات الكندي «دونالد ريد فورد» من العلماء الذين يعتمدون علي المصادر الأصلية كالبرديات بالإضافة لمنهجه العلمي الصارم، لذلك لم يتردد في ترجمة كتابيه «إخناتون ذلك الفرعون المارق- علي نفقته الخاصة- دارالوفاء لدنيا الطباعة والنشر- الإسكندرية عام 2000»، و«مصروكنعان وإسرائيل في العصورالقديمة- المجلس الأعلي للثقافة عام 2004». في الفصول الأولي من الكتاب الأول رصد «ريد فورد» ظاهرة تعدد الآلهة في الديانة المصرية، وما ترتّب عليها من ترسيخ قيمة «التعددية» بمعناها الأشمل، وضرب مثالا بأبناء الأجانب الذين وفدوا إلي مصرللتعليم، لدرجة أنّ أطفال الكنعانيين الذين تلقوا تعليمًا مصريا «فقدوا جذورهم وأصبحوا لايعرفون لهم لغة غيرالمصرية، فأصبحوا منبوذين تمامًا من شعوبهم»» «ص32» كما ذكر واقعة الحلاق الملكي «سي - باست» الذي أنعم عليه الملك بامتلاك أحد الأسري، فإذا به يعامله معاملة أهل بيته، بل ويزوّجه ابنة أخته التي سترث نصيبًا يوازي ما سترثه زوجته وأخته «ص 29» لذلك ذكر في المقدمة أنّ مصرفي القرن 15 ق. م كانت مجتمعًا متحضرًا. وأضاف «لم تكن جذورنا الأوروبية قد ضربتْ بعد، ولم يكن أي من سقراط أوبيركليس أوأثينا بفلاسفتها أو روما بمشرعيتها قد ظهروا بعد حتي في صورة جنينية، فأثينا لم تكن وقت ذاك أكثرمن بلدة متوحشة في الأحراش»» «ص 9». ويري «ريد فورد» أنّ المصريين القدماء مالوا في تأملاتهم عن بداية وأصل الكون ميلا قويا نحوالتعددية، سواء في مدرسة «آتوم» الذي خرجتْ منه المواد الأولية. أو في النسق «المنفي» الذي عظم من شأن القلب «= العقل» الذي خلق الأشياء عن طريق الفكر، أي الاسقاط المتجسد للفكرالذي تحدوه الإرادة. أوالنسق الثالث في مدرسة الأشمونيين التي وصفت العنصرالأول «للخلق» باعتباره اللامتناهي في الحجم. واللامتناهي في الظلمة. الهلامي بصورة كاملة والباطن بصفة عامة. وتلك كانت بمثابة البشائرالفلسفية التي سبقتْ فلسفة ما قبل سقراط، إلاّ أنّ العبادة التي فرضها إخناتون كانت تنتمي لنسق مختلف، إذْ إنّ العبادات السابقة كانت نسبية، بينما عبادة إخناتون مطلقة. الأولي قائمة علي التعدد والثانية وحدانية «159» لذلك فإنّ الترنيمة الشهيرة «من ترنيمات إخناتون» الموجّهة للإلهة حتحورتم تنقيحها بحيث تتخلص من كل سمة لتعددية الآلهة. وأكثرمن ذلك فلا ذكرلآلهة عظمي مثل بتاح أوتحوت أوأوزير«131» ووصل تطرف إخناتون لدرجة أنْ أعلن أنّ الإله آمون ملعون. وأرسل حاملي البلط ليطوفوا بالمعابد لينتهكوا قدسيته . تسبّبتْ شطحات إخناتون مع قرص شمسه، في عدم الاهتمام بالشعب مثل باقي الملوك السابقين، ومن بين كل البرديات التي عثرعليها المؤلف ذكر أنه «لم يقع في أيدينا أي نص يخبرنا أن إخناتون يسمع صرخة الفقيرأويشفي المريض أو يغفرللمذنب»» «185» ولم يهتم بسياسة مصرالخارجية لدرجة التفريط في الولايات التابعة لمصر. وأنه «يتحمل مسئولية انهيار الوفاق المصري - الميتاني. وكان تعليق المؤلف أنه «متي تشاجرطرفان ابتهج طرف ثالث»» الطرف الثالث هنا هم الحيثيون الذين انتهزوا رخاوة حكم إخناتون وتفريطه في معاهدة الصلح مع الميتانيين. فإذا بالحيثيين يعملون علي تعميق الفجوة بين مصر وميتاني، الأمرالذي انتهي باستسلام سوريا «التي كانت ولاية تابعة لمصر» ووقعت في قبضة الحيثيين، وبذلك انتقلتْ سوريا الشمالية بأسرها إلي السيادة الحيثية. وهكذا فقدتْ مصرمركزها العصبي علي الساحل السوري «من 206- 214» وبالتالي «دبّتْ عوامل عديدة في الأراضي الواقعة علي مشارف المناطق الخاضعة لنفوذ مصرمنذ حكم إخناتون الذي جلب علي بلاده النوائب. ضاربًا في أعماق الوهم، وهذه هي الحقيقة التي استيقظ عليها توت- عنخ- آمون» . غيرتوت- عنخ- آتون اسمه إلي «توت- عنخ- آمون» واستقل برأيه بعد أنْ ابتعد عن إخيتاتون «تل العمارنة حاليا والذي كان مقر إخناتون» ورغم أنه كان في مقتبل العمر، فقد وعي جذوره. وارتفع إلي المثل الأعلي الذي وضعه أسلافه الأولون. ونتج عن سياسته الخارجية الحازمة أنّ آشور- أوبالت «ملك آشور» أرسل إليه رسالة أبدي فيها رغبته في إقامة علاقة طيبة مع مصر، وأنه رحّب بها. وجديربالملاحظة أنّ ولادة توت - عنخ - آمون جاءت في عالم تحطيم تماثيل الآلهة علي يد المارق «إخناتون»، فلم يرمصرالتقليدية التي تقوم عبادتها علي التعددية. كما حرمه الموت المبكرمن إمكانية الكشف عما كان في طوعه أنْ يفعل لو واتته الفرصة. وعن التغيرات الداخلية التي أحدثها في السنة الثالثة من حكمه، كان أهمها مرسوم التسامح، فلم يتعرّض أي معبد من معابد «قرص الشمس» للإغلاق. ولم تُكشط نقوشها ولم يواجه رجال الدين الآتوني محنة التسريح من أعمالهم . كما لم تصدرآيات اللعن ضد إخناتون أو نفرتيتي . وفي المقابل أصبح كل إنسان حرًا في ذكرالآلهة القديمة دون خشية العقاب . وقاد الفرعون الشاب وزوجته الملكة «عنخ- إس- إن- آمون» مسيرة إعادة الاعتبارلكل الآلهة . لذلك فإنّ حكمه يمثل فاصلا بين التشدد الذي ساد فترة تحطيم تماثيل الآلهة، وبين التحول التام نحو تسامح التعددية. وبالتالي أصبح من الممكن الابتهال لآمون أو بتاح.. إلخ . وأنّ ذلك لم يكن يقدرله النجاح لوأنّ مصرعرفت النظام الكهنوتي، لأنه «لم يكن هناك رجال دين محترفون في القرن 14 ق. م» وتوازي مع هذا أنّ توت- عنخ- آمون حرص علي استعادة مجد الامبراطورية المصرية. كما نراه في موتيف تقليدي وقد خرج يطارد حشدًا من الأعداء «من 218- 226» . ويقدّرعلماء المصريات ل«توت- عنخ- آمون» حصافته عندما اختارحور- إم- حب ليتولي الحملات التأديبية ضد كل من يحاول اختراق حدود مصر. وبعد وفاة توت-عنخ- آمون تولي الحكم «آي» وبعده تولي الحكم حور-إم- حب رغم أنه من عامة الشعب. ويري البعض أنه تزوج بشقيقة نفرتيتي «موت- نجمت» لإضفاء شرعية الحكم، وفق المنظومة المصرية التي تعطي للمرأة «جدة. أم. زوجة. شقيقة الملكة أوالملك» حق الحكم . وذكرريد فورد عنه أنه «لم يكن ملوثا بالمروق الذي عرفته إخيتاتون. وكان نشطًا واسع الخيال وملتزمًا. وقلبه مفعمٌ بالمصلحة العامة للبلاد. وتركزتْ جهوده الرئيسية علي استئصال فساد البيروقراطيين. والقضاء علي الفوضي التي هي إرث مباشرلفترة المروق الآتونية. وأهم وثيقة صدرت عنه هي مرسوم الإصلاح، المعروف باسم تشريع حور-إم- حب الذي عُثرعليه شمالي الصرح العاشر للكرنك، وتضمن محاربة الفساد سواء في الجيش أوالقطاعات المدنية وإصلاح القضاء وتطهيربيت وزارة العدل من الداخل. كما أصدرأمرًا بإعفاء الفلاحين من الضرائب وإسقاط الضرائب المتأخرة عليهم. ولذلك «لم يمزق القناع عن الوجه الحقيقي لعصر إخيتاتون قدرمرسوم الإصلاح» فقد شهد عصر إخناتون جيشًا مفوّضًا بإخماد الشعب وفلاحين معدمين وقضاة فاسدين. وانسحاب رأس الدولة «إخناتون» في حاضرته الجديدة «مع إلهه الجديد» ونظرًا لأهمية تشريع حور-إم- حب الاصلاحي، ودفاعه عن حدود مصر يراه المؤلف «الشخصية الأولي بلا منازع علي مسرح الأحداث التي شهدتها تلك الفترة» ورغم ذلك فإنّ الإعلام الأمريكي والسينما الأمريكية تعمّدا تشويه صورته. ونفي «المؤلف» الآراء التي تدعي أنّ موسي تعلم علي يد إخناتون، نظرًا للفروق الجوهرية بين الآتونية والموسوية. ولأنّ المؤلف يتسم بالموضوعية، فإنه لم يغفل ذكرتطورالفن في عهد إخناتون. وكذلك قدرته الخارقة كشاعروخاصة في الترنيمة الكبري لقرص الشمس فهي تقف شامخة في تصورها لجمال الخلق. ولكنه كان حاكمًا شموليا، يجهل «والأدق يتجاهل» حق الفرد في أنْ يختاربحرية. وانتصرلوجود قوة سماوية تطلب خضوعًا كليا وتزعم أنها الحق الكلي «المطلق» في حين أنّ اللاهوتيين المصريين القدماء علي غراراللاهوتيين المحدثين أنجزوا رسائل فلسفية ذات قيمة، مثل اللاهوت «المنفي» وترانيم بتاح.. إلخ فما الذي جاء به اخناتون كبديل لها وأعلن عليها اللعن ؟ الجواب لاشيء «من 236- 256».