يمثل البطريرك في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أعلي سلطة دينية لذلك فإن مكانته -أو إذا جاز لنا التعبير جلوسه علي كرسي مار مرقس- تحظي بلفت أنظار أتباع مذهبه عامة وشعب كنيسته بصفة خاصة مكانة كبيرة ومنذ دخول الإسلام أرض مصر، حظي البطريرك بمكانة كبيرة عند المسلمين، لدرجة أن بعض الحكام والولاة كانوا يتحرُّون اختياره، ونذكر علي سبيل المثال ما حدث في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، عندما تنيح (توفي ) البابا "زخارياس الأول "البطريرك رقم (64)(996م -1023م)، فتطلع بعض الأراخنة إلي أن ينالوا منصب البابوية بواسطة استخراج أمر من الخليفة الفاطمي، فلما علم "بقيرة الرشيدي"الكاتب القبطي، حميت الغيرة علي الكنيسة في قلبه فجمع قوماً من الأقباط، وذهب إلي الوزير "علي بن أحمد "ودار حوار بينهما حول ذلك الأمر، وكان الوزير يتصف بالحكمة والفهم وسمحًا مع الأقباط، فذكر ل"بقيرة " والأراخنة:" أنه عند رسامة البطريرك يتوجب دفع ثلاثة آلاف دينار (العملة في تلك الفترة)، وقد تركناها كرامة لكم، فيجب أن تفعلوا بعد هذا ما يرضي الرب، كما يفعل عندنا في بغداد"، وذلك لأنهم كانوا عندما يرسمون بطريركاً يجتمعون بداخل الكنيسة ويختارون (ينتخبون) مائة رجل من رهبان الأديرة ثم يفحصونهم حتي يكونوا خمسين ويعيدون فحصهم إلي أن يصبحوا خمسة وعشرين، حتي يصلوا من بينهم إلي ثلاثة مختارين ويكتبون أسماء الثلاثة في ثلاث رقاع والرابعة يكتبون فيها اسم الرب، وتُشمَّع وتوضع علي الهيكل ،ويصلون قداساً،وبعد صلاة القداس يحضرون طفلاً صغيراً بريئاً من أولادهم لم يرتكب إثماً ، فيمد يده فيستخرج واحدة من الرقاع فيرسمون صاحبها بطريركاً،وإذا كان فيها اسم الرب علموا أنه لا يوجد من يصلح من الثلاثة فيكتبون أسماء ثلاثة آخرين ويستمرون كذلك حتي يختار الرب واحدا ًيرسمونه، فتعجبوا من حكمته ومشورته في إخبارهم هذا الأمر، وبالرغم من ذلك لم يأخذوا بآرائه،واجتمع الأساقفة والأراخنة يؤيدهم الشعب علي اختيار احد رهبان دير القديس «أبو مقار» وهو البابا"شنودة الثاني "البطريرك رقم (65)(1024-1038م)، ووافق الخليفة علي قرار اختياره. وفي القرن الثالث عشر الميلادي زادت مكانة البطريرك عند المسلمين وبالتحديد في عهد البابا كيرلس الثالث( ابن لقلق)(1235-1243م)، فعندما علم هذا البطريرك بوجود جماعة تقف علي باب كنيسة القديس مرقوريوس لمحاولة إعاقته هو ومن معه عن حضور لحضور عيد تذكار قديس الكنيسة، امتنع عن الحضور، فلما علم الوالي أرسل علي الفور أحد أمرائه لخدمته وليعينه علي إقامة الصلاة، ويقدم له التهاني. كما كان من عادة الفقهاء المسلمين أن يجتمعوا مع السلطان، وفي ثالث يوم عيد القديس مرقوريوس حضروا عنده، وكرروا شكواهم من المسيحيين ومن ركوبهم البغال، فلم يصغ الوالي إلي شيء من ذلك، وبعد يومين قال: الوالي في مجلس من مجالسه " بلغني أن أهل مصر (القاهرة القديمة) تعرضوا للأب البطريرك والي كنيسته، وأقسم بالله لئن جري شيء من هذا، فسيكون عقاب من يفعل إزهاق روحه"، واشتهر هذا الأمر لدي كل مسيحي واطمأنت نفوسهم، واطمأنت نفس البابا البطريرك. وقد حدث في عهد ذات البابا أن تعرضت كنيسة المعلقة لحادثة سرقة بعض الاواني النحاسية، وبعد أخذ شهادة الجيران المسلمين أدَّوا شهادة الحق علي أن حادثة السرقة تمت علي يد مؤذن المسجد المجاور لذات الكنيسة، فتجمهر الناس لايقاع الفتنة، فجاء الوالي وصرف الناس، وأمر بإغلاق المسجد، وتجمع بعض كبار المسلمين وتوجهوا لنائب السلطان وشكوا إليه وقالوا:" يامولانا تغلقون المساجد وتفتحون الكنائس!" فقال لهم:" هذا حديث لا يصح أن يسمع، فالكل يفتح (مساجد وكنائس) ومن أراد المسجد ذهب إليه، ومن أراد الكنيسة ذهب إليها، ولكن بشرط ألا يؤذي أحد ولا يتعرض أحد لآخر. فهؤلاء رعية السلطان، وأنتم أكثر من يعلمون، وإن كان هذا المسجد فقيراً فأنا أقوم بمطالبه، إلا أن التعدي لا يمكن لأحد أن يقوم به". ويذكر عن تلك الفترة كلها كما وصفها البابا البطريرك أن:" كان المسيحيون مع المسلمين في إنصاف عظيم وإكرام جسيم وود عظيم.فالله سبحانه يحرس أيامهم وينصر سلطانهم، وهو سلطاننا وإمامهم وهو راعينا". العصر العثماني وفي العصر العثماني تمتع البطريرك بمكانة كبيرة لدي المسلمين لدرجة وصلت إلي قيامه بدور شبه قضائي ولجوء بعض المسلمين إليه في حالة كون النزاع مع قبطي، بل إننا نجد بعض وثائق المحكمة الشرعية وقد سجلت لنا مثول البابا نفسه بين يدي القاضي المسلم لفض بعض المنازعات؛ ما بين بعض المسلمين، أو ما بين بعض المسلمين والأقباط. وفي منتصف القرن التاسع عشر، زادت مكانة البطريرك لدي المسلمين وقد أوصاهم دينهم بحسن معاملة أهل الكتاب واستنكر أن يسيء أحد إلي ذمي، ومن هؤلاء البابا كيرلس الرابع البطريرك رقم(110)(1854-1861م) الذي لقبوه ب (أبو الإصلاح) لما أدخله من تطوير في العملية التعليمية، لدرجة إصداره أمرًا إلي رهبان دير بوش( مركز ناصر محافظة بني سويف) بتعليم أبناء القرية من مسلمين واقباط، بل قدم للجميع المساعدات من المأكل والملبس في محبة تامة. ومن أوائل البطاركة الذين نالوا مكانة كبري لدي الحكام المسلمين في منتصف القرن العشرين، البابا " كيرلس السادس "البطريرك رقم (116) (1959-1971م)، والمعروف في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولدي المؤرخين والسياسيين برجل (الصلاة و القداسات )، الذي كان يستقبله الرئيس جمال عبد الناصر(1954 1970م) في منزله، بل تبرع له بقطعة أرض أقيمت عليها الكاتدرائية الحالية بالعباسية، كما تبرع أولاده بما يملكونه من أموال للمساهمة في بنائها. وفي أواخر القرن العشرين نال البابا شنودة الثالث البطريرك(117)المتنيح في 17 مارس 2012م مكانة كبيرة لدي المسلمين علي مستوي مصر والعالم العربي لمواقفه الوطنية البارزة وخاصة مشكلة فلسطين، ولرفضه التام دخولها إلا مع المسلمين، فلقبوه ب ( بابا العرب) ولايزال يعرف بهذا اللقب. وهكذا يتبين لنا من الأمثلة التي قدمناها ومن غيرها علي مدار التاريخ أن التعامل ما بين المسلمين ورموز الديانة المسيحية كان قائماً علي الاحترام والتقدير المتبادل بينهما،حيث إن الأديان تنبع من منبع إلهي واحد وكلها تدعو إلي مكارم الأخلاق وإعلاء الجانب الروحي لبسط الأمن والسكينة في أرجاء الأرض والظفر برضا الله في السماء، وغلب علي منطق الطرفين أن الدين لله والوطن للجميع.