مر العام الأول علي ثورتنا المجيدة "ثورة25يناير"، والأغنية الوطنية في احتضارٍ ملحوظ،ٍ فانطفأ توهج روحها الذي كان شعب مصر بأكمله يستقي منه حياته، وتعثر اللحن ففقد نغماته الحماسية التي كانت تمدنا جميعاً بروح التحدي،وكان من الضروري أن تقدم الأغنية الوطنية بمصاحبة القائمين عليها عزفاً قومياً معبراً عن المصري، هذا المولود حديثاً، وكان من اللازم جداً أن تقدم الأغنية الوطنية كافة فروض الطاعة لهذا الشعب، لتكون صانعة الحدث ومترجمة اللحظات ومؤرخة المواقف، وكان عليها أن ترتدي ثوب التعبير الجديد المناسب لطبيعة مصر الجديدة. اختناق الأغنية الوطنية في الأيام الأولي للثورة، انطلقت الأغاني الوطنية بقوة الصاروخ، لتعّبر عن هذا الحدث المهول، فارتبط الوجدان المصري ساعتها بها وأدمن ترديدها، وأصبح المصري يراها أيقونته لشحن وجدانه وشحذ عاطفته وهمته، فكانت وقوداً لاستمرار الثورة في الميادين المختلفة وليس ميدان التحرير فقط، فآمنا جميعاً بأغنية المتميز " محمد منير " "إزاي " والتي كانت من تأليف نصر الدين ناجي وألحان وتوزيع أحمد فرحات، برغم تسجيلها قبل الثورة، إلا أنها جاءت لتضغط علي جرح المصري المفتوح وتعالجه في نفس الوقت، فانفعل الجميع معها وبها، ولم تقتصر الأغنية الوطنية علي الكبار فقط، بل كان للشباب دور رائع فارتفع صوت الشباب مع رامي جمال وعزيز الشافعي في أغنيةٍ تدغدغ الإحساس وتُبكي العيون وتشعرك بمصر الجديدة وهي "يا بلادي أنا باحبك يا بلادي" وانتشرت الأغاني الوطنية أثناء الأيام الأولي للثورة فغني الكثيرون ما بين هنا وهناك، فلماذا عندما مرت الذكري الأولي لثورة 25 يناير لم ترتبط نفوسنا نفس الارتباط الجميل بهذه الأغاني ولم تهتز لها المشاعر ذلك الاهتزاز؟! بل لم نعد نؤمن بجدوي ترديدها،وهوما أدركته وسائل الأعلام فلم تكرر ذلك الإلحاح الغنائي في القنوات الفضائية لأغاني مثل "إزاي" وغيرها من الأغاني التي سكنت قلوبنا منذ الثورة، لأنها أدركت ونحن أيضاً هول الأحداث الجارية وتلاحق المؤامرات وتراجع إيمان المصري بدور الكلمة المغناة داخل منظومة الأغنية الوطنية فلم تشبعنا كما كانت ساعة وقوع الثورة، وأصبح الغناء الوطني غناءً مختنقاً بين مناجاة الوطنية وعدم القدرة علي التعبير الحقيقي للأحداث الجارية،مما جعل المصري حتي الرجل البسيط يراه بوقاً يغني خارج صورة الحدث. الوهم كل هذا يثبت لنا أن نجاحات الأغاني الوطنية المتلاحقة في بدء أيام الثورة الأولي لم يكن إلا وهماً وأن نفس الأغنية إذا ما تم ترديدها الآن لا تجد من الإصغاء والانتماء والوطنية ما كانت عليها منذ بدايات الثورة، مما يضعنا في بؤرة القول بأن نجاح أي أغنية وطنية أوفشلها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتهيئة النفس البشرية لاستقبالها ومدي صفائها من أي أحداثٍ تعكر صفواستقبالها، فقد كانت الثورة حدثاً مهولاً صارخاً مزلزلاً للدنيا، لذا فتهيأت نفس المصري لاستقبال أي أغنية وطنية وقتها تترجم شعوره وألمه وظلمه وقهره، فساعده هذا علي تقبله لمضمون الأغنية الوطنية، فصدّقها لأنها جاءت تناجي قهره الدفين، ونري مثلاً الكنج" محمد منير" قد عاش فرحة نجاح أغنية "ازاي" وعشناها معه أيضاً لأن اللحظة والتوقيت كانا من أهم العوامل المساعدة علي ذلك، بينما تجد أغانيه الوطنية الأخري والتي غناها بعد الثورة وبرغم إذاعتها مرات عديدة مثل أغنية " غنوا لمصر " نراها باهتة لم تُحدث نفس التأثير السابق فينا، هذا يرجع إلي كَم الأحداث المرعبة التي تعلوعلي أي غناء وطني، فلم يفلح معنا أيضاً حتي الأغاني الوطنية القديمة لشادية ووردة وغيرهما، والتي بُحت الأصوات في قوة تأثيرها علي الشعب المصري إبان أيام الثورة الأولي، ببساطة لأن الشعب المصري يعيش مؤامرات وكوارث وفوضي تشعره بعدم الأمان ونراه في ازدياد دائم في كم سقوط الشهداء،وأطماع في ثرواته وحدوده ويعيش في خوفٍ وارتباك بفعل ظاهرة البلطجة، تجعله يريد أكثر من مجرد تجديد انتمائه وإظهار حبه لمصر ومناجاة وطنيته حتي يعود تعلقه وتصديقه لهذه الأغاني الوطنية سواء القديمة منها أوالحديثة. تغيير الخطاب الغنائي كما نطالب بتجديد الخطاب الديني دائماً والخطاب السياسي ونطالب بشدة تغيير الخطاب الغنائي الوطني بأن يكون مناسباً لطبيعة الشعب المصري الجديدة وجعله يلاحق الأحداث الجارية بالمشاركة في صنع الجميل منها، وأن تمتاز الأغنية الوطنية في جوهرها ببعد نظرها القومي والفني، لا تصطف في طابور انتظار الحدث ثم تأتي بعده واصفةً له، فكل الأغاني الوطنية التي نُفذّت بعد الثورة لم يتغير فيها شيء وكأنها سارية المفعول منذ العهد البائد، فما زالت تلعب علي وتر كلمات" الطيبة والمحروسة والنيل والأهرامات والفلاح والريف والبندر " حتي الإخراج يكاد يكون واحداً بنفس الصور والوشوش، فهل هذا الكلام المكرر يعبرعن مصر الحديثة، نعلم أنها صفات تكمن في مصريتنا، لكن أين إبداع الفنانين في خرق التابوهات القديمة ومحاولة عقد صداقات مع المصري بعد الثورة، فنري مثلاً أغنية المطربة "أمال ماهر"" يا مصر "كلمات نبيل خلف وألحان وليد سعد وإخراج " أحمد المهدي" لا تختلف كثيراً عن أغنية "غنوا لمصر" لمحمد منير،ومن العجب أن هاتين الأغنيتين لنفس المؤلف ونفس الملحن ونفس المخرج والعجب هنا في تكرار المعاني بذاتها، والصورة بإخراجها واللحن المتقارب، فكلمات مثل "مصر والنيل والطيبة وغيرها تجدها ساكنة فيها، وبرغم إعجابي الشديد لفريق العمل هذا إلا أن احتكار الأغنية الوطنية لنفس الفريق يفقدها مصداقيتها ويجعلها تكرر نفسها بطرق عدة فهوغناء للمجموع بروح فردي والملاحظ أن دكتور نبيل خلف بعد نجاحه الساحق في التمرد علي كلمات الغناء الديني العادية ودخوله ببراعة منطقة جديدة تحسب له، اتجه لتأليف الأغاني الوطنية وبكثرة بعد الثورة وهذا يضره كثيراً إذا لم تثر كلماته وتتجدد، فتراه يكرر نفسه وبشدة مما يجعل المصري يتوقع كلماته قبل البدء في تأليفها، وينطبق القول علي المخرج أحمد المهدي، فالصورة الوطنية ليست من الضروري أن تُحتكر في الريف المصري والفرن البلدي والأرض الزراعية وعسكري الجيش فهذه التيمة تكررت كثيراً، فلابد أن تُبتكر رؤية جديدة مغايرة لكل ما فات لتقنع المصري أن هناك ثورة تحمل المزيد لنا لتُقنع ذاتنا.... الفيضان الجاف وأتساءل أين جيل الشباب المبدعين في الكلمة واللحن والإخراج فهل نضب نيل مصر الشعري وجف نبع دفع دماء شعرية جديدة في جسد الأغنية المصرية ؟! فكما قامت ثورة الشباب نريد ثورة الكلمة واللحن والإخراج كي تُخرج الأغنية الوطنية من الحبس في صفة "السبوبة"،فمن منا لا يعرف أغنية "يا بلادي " الملازمة للثورة المصرية فكانت من صنع شباب، فالأجدي أن يفتح الباب لهذه المواهب الجديدة وهناك أغاني لا بأس منها ولغير المنظومة الفنية السابقة الاحتكار كأغنية لطيفة " مصر بلد الخير " كلمات محمد عبد الحي وألحان أشرف السرخولجي، رغم متاجرتها بالمشاعر أيضاً وإهدائها لشباب الثورة، فكل ما يقدم الآن هوضمنياً لشباب وشهداء الثورة فلماذا تُلزم الأغنية الوطنية نفسها بذلك؟! وتسير علي نفس الدرب المكرر في الرؤية والكلمات أغنية "فيها حاجة حلوة" لريهام عبد الحكيم، ومن الأغاني التي تقع بين الأغنية الاجتماعية والوطنية أغنية " أنس " للمطرب وائل جسار" وهي تصور وصية الطفل أنس شهيد الالتراس الأهلي، وبرغم صدقها وروعتها إلا أنها أيضاً جاءت تتوج الحدث فهي تحصيل حاصل، ووتذكرنا بأوبريت " لا وألف لا " للشاعر مدحت العدل والملحن عمرومصطفي وغناء مجموعة من المغنيين والممثلين والتي جاءت مباشرة بعد حادثة "كنيسة القديسين " ولا ننكر هنا دور الفن في التعليق علي الحدث لكنّا نريده أن يكون بعيد النظر ويسبق الحدث بفنياته المختلفة لذا فنطالب بمشاركة الأغنية الوطنية للجرح المصري بطريقة مبتكرة والتعبير عن كل فئاته، فلماذا لا توجد أغاني تتوجه لظاهرة البلطجة وتناجي البلطجي بشخصه لتطهرنا من هذه الظاهرة ؟!، ولماذا لا تُوجد أغاني وطنية للأطفال علي غرار أغاني الأطفال العادية، تربطهم وجدانياً بمعاني الثورة المختلفة والفكر الجديد والأمل فيهم وهم من فاجأتهم الثورة وجعلتهم يثورون علي كل ما تعودوا عليه دون فهمِ أواستعدادِ لذلك بحكم تربية " وأنا مالي"؟! وأين الأغاني التي تُحيي فينا صفات الانتماء والحب والتسامح والصفات التي تجعلنا ندرك خطورة الوقوع في شرك المعصية، لكن سوق الأغاني الوطنية ما زال يناجي الأطلال بترديده صورة مصر الجميلة بأبناء الريف والعامل والنيل والطيبة والطهارة المبالغ فيها متناسياً روح الحضارة الحديثة ورصد التغيير الكبير في صفات المصريين التي أخذتهم بعيداً عن كل هذا مما جعلتنا جميعاً لم نعد نصدقها، وأنا هنا لا أطالب بدورها التربوي، والإرشاد، لكننا نريد أن نثبت انتماءنا ويصدق حسنا ونرتبط بأغاني وطنية صُنعت لنا خصيصاً بعد الثورة تعبر عن فكرنا وتغيرنا لنمتزج معها ونرتبط بها ارتباطا دائماً لا ارتباط مرحلة أولحظة حماسية، فأنا أحّمل الأغنية الوطنية مسئولية عدم الدخول في عش الدبابير، واكتفاءها بدوالراصد للحدث بعد وقوعه، والتعبير عن الماضي الجميل المثالي دائماً بكلماتها وألحانها وإخراجها، فكما غمرتنا الأقلام والرؤي والتحليلات السياسية والأدبية بالمقدرة علي التنبؤ بوقوع الثورة، فلماذا خرجت الأغاني الوطنية من سباق هذا التنبؤ ؟! فعليها أن يقوي حدسها لتُعبرعن أفكارٍ ممتدة ورؤي فنية تمّكنها من زلزلة نفس المصري بصدق الظروف المُعاشة.