لاتزال العمليات الإرهابية التي قام بها محمد مراح الفرنسي الجزائري الأصل في مدينتي تولوز ومونتوبان تثير ذعراً كبيراً في فرنسا خاصة وبعد أن تبنت جماعة تطلق علي نفسها اسم كتيبة جند الخلافة «سرية طارق بن زياد» مسئولية الهجمات. وكان محمد مراح قد اتهم بإطلاق النار أمام مدرسة يهودية، مما أدي إلي مقتل أستاذ تعليم ديني وولديه وطفلة أخري، كما اشتبه في تورطه في مقتل جنديين فرنسيين بإطلاق نار في مدينة مونتوبان المجاورة، ومقتل جندي فرنسي قبلها في تولوز. وأعلنت وزارة الداخلية الفرنسية مقتل محمد مراح بعد محاصرته داخل شقة تحصن داخلها في تولوز لنحو 32 ساعة. وحاولت الشرطة التفاوض معه من أجل اعتقاله حياً إلا أنه أعلن أنه يريد الموت والسلاح في يده. وأسفرت الواجهات عن إصابة ثلاثة جنود فرنسيين. جند الخلافة تحذر فرنسا قالت الجماعة في بيان نشرته مواقع إلكترونية جهادية إنه في 19 مارس انطلق أحد فرسان الإسلام وهو أخونا يوسف الفرنسي نسأل الله أن يتقبله، في عملية هزّت أركان الصهيو-صليبية في العالم كله وملأت قلوب أعداء الله رعباً. نحن إذ نعلن مسئوليتنا عن هذه العمليات المباركة، فإننا نقول إن ما تقوم به إسرائيل من جرائم في حق أهلنا علي أرض فلسطين الطاهرة، وفي غزة علي وجه التحديد، لن يمر دون عقاب". ودعت الجماعة الحكومة الفرنسية إلي إعادة النظر في سياساتها تجاه المسلمين في العالم، وإلي التخلي عن نزعتها العدوانية ضد الإسلام وشريعته، لأن مثل هذه السياسة لن تجلب لها إلا الويل والدمار. وتعيش في فرنسا أكبر جالية مسلمة وأكبر جالية يهودية في أوروبا، ويصل عدد الجالية الإسلامية إلي نحو خمسة ملايين «من أصل 65 مليون نسمة»، في حين يبلغ عدد الجالية اليهودية أكثر من 600 ألف. وأثار هذا البيان الذعر في فرنسا كما أثار غضب اليمين المتطرف، واتهمت مرشحته للرئاسة الفرنسية مارين لوبان الحكومة الفرنسية بترك الضواحي الفقيرة للمتطرفين الإسلاميين الذين قدرت عددهم بالآلاف، وأضافت "أقول هذا منذ عشر سنوات. هناك أحياء كاملة تحت سيطرة المتطرفين الإسلاميين، وأقولها اليوم ثانية إنه يجري التهوين من شأن هذا الخطر". وخلفت ماريان لوبان أبيها جان ماري لوبان في قيادة حزب الجبهة الوطنية المعادي للهجرة، ودعت إلي التركيز علي إخفاقات فرنسا الأمنية قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية لاسيما وأن محمد مراح تعرض للاعتقال عدة مرات. كما اتهمت لوبان دول أجنبية بتمويل الإرهاب في فرنسا في إشارة إلي دولة قطر، وقالت :هناك تأثير شديد لدول أجنبية تود نشر الأصولية الإسلامية وأجد من المدهش للغاية علاقات الصداقة بين الرئيس نيكولا ساركوزي وأمير قطر الذي أجيز له استثمار خمسين مليون يورو في الضواحي الفرنسية". الإسلام ليس إرهاباً وفي الوقت الذي وجهت زعيمة اليمين المتطرف اتهاماتها لساركوزي وحكومته، دعا الرئيس الفرنسي إلي عدم الخلط بين الإسلام والإرهاب وقال إنه "لا ينبغي الخلط علي الإطلاق، فمن قبل استهداف أطفال يهود، أطلق الرجل النار علي مسلمين". وكشفت عملية تفتيش الشقة التي تحصن بها مراح عن وجود كاميرا صور بها عمليات القتل التي قام بها، ويظهر في الشريط الذي قتل فيه الجندي الأول الفرنسي من أصل مغاربي، عماد بن زياتان، وهو يقول "تقل أخوتي، أقتلك"، ويصرخ "الله أكبر". وأعلن ساركوزي عزمه علي مكافحة الأفكار الإسلامية المتطرفة ومعاقبة عناصره معاقبة جزائية، وطلب من رئيس الوزراء فرنسوا فيون ووزير العدل إجراء دراسة معمقة بشأن انتشار الأفكار المتطرفة في أوساط السجون. ومن جانبه، نفي رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون وجود مبررات سابقة للقبض علي محمد مراح مشيراً إلي أن فرنسا دولة قانون ولأن الانتماء لمنظمة سلفية ليس جريمة، وأضاف "ليس لدينا الحق في بلدنا أن نراقب باستمرار ودون قرار قضائي شخصا لم يرتكب جريمة". وبعد مقتل مراح أعلن مصدر قضائي فرنسي التحفظ علي عبدالقادر شقيق محمد مراح علي قيد التحقيق، كما تم الكشف عن العثور علي متفجرات في سيارة محمد مراح بينما أعلن مسئول في المخابرات الأمريكية لوكالة الصحافة الفرنسية أن محمد مراح كان مدرجاً علي اللائحة السوداء للأشخاص الممنوعين من السفر إلي الولاياتالمتحدة. وفي هذا السياق، تعرض جهاز المخابرات الفرنسية للنقد اللاذع من اليمين المتطرف ومن الصحف البريطانية والأمريكية بسبب إخفاقه في الكشف المبكر عن خطورة مراح الذي سبق وتم اعتقاله مرتين بعد عودته من مناطق مشتبه بارتباطها بمخيمات تدريب تنظيم القاعدة علي الحدود بين باكستان وأفغانستان. من هو محمد مراح؟ قالت مصادر أمنية واستخباراتية فرنسية أن محمد مراح «23 عاما» كان يعاني نفسياً بسبب انفصال والديه وعودة والده إلي الجزائر، وأنه كان شابا عادياً في مظهره وتصرفاته وأنه لم يكن معروفا عنه أنه يرتاد المساجد. ووصفه جيران له بأنه كان شابا مهذبا وأنه كان يحب السيارات والدراجات النارية وكرة القدم. وأضاف البعض الآخر أنه كان يظهر أحيانا بمظهر غريب فيما يتعلق باللباس وبتسريحة الشعر، وأنه في إحدي المرات أجبر ولداً صغيراً علي مشاهدة شريط فيديو يحتوي علي عمليات قطع للرؤوس. وعلي الرغم من تناقض التصريحات حول مراح، إلا أنه من الواضح أن تاريخه كان حافلاً بالمخالفات حيث مثل أمام القضاء وهو في سن 16 عاما بسبب قذفه حجرا علي حافلة، وسجن لمدة عام ونصف العام وهو في سن 18 عاماً لإدانته بخطف حقيبة يد. ويشيرالمدعي العام الفرنسي فرانسوا مولين إن خطوات مراح نحو التطرف بدأت في السجن. السلفية في فرنسا وحول وجود الجماعات السلفية في فرنسا، يرجع بعض المراقبين بدايتها إلي الغزو السويفيتي لأفغانستان في سبعينات القرن الماضي حين تكاتف الغرب لمساندة المجاهدين الأفغان. وكانت مساجد العاصمة الفرنسية باريس وكبري المدن الفرنسية تستقبل الدعاة من السعودية وباكستان الذين يأتون تحت حماية الشرطة الفرنسية لجمع المقاتلين المتطوعين للذهاب لقتال السوفييت. إلا إن فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات الجزائرية عام 1992 أدي إلي رفض فرنسا للإسلام المتشدد مما أدي إلي بروز جماعات سلفية في مدن فرنسية مختلفة، وتبع ذلك صراع بينها وبين السلطات الفرنسية. وكان للتمويل السعودي دور كبير في بناء المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية مما أثار قلق المخابرات الفرنسية الذي حذر رئيسها السابق آلان شوي من خطورة الدور السعودي السلفي في فرنسا، ووصف السعودية بأنها أساس العنف في العالم الإسلامي. غير أن لوي كابريولي، المسئول السابق في المديرية الفرنسية لمراقبة الأراضي، علن أن الخوف من تهديد القاعدة مبالغ فيه حيث يقدر عدد الأشخاص الذين ينتمون للتنظيم والذين تلقوا تدريبات في باكستان وأفغانستان بالعشرات، ووصفهم بأنهم "ذئاب منفردة" وإنهم "مجرمون صغار ينتقلون إلي السلفية". في الوقت نفسه، أكد الباحث دومينيك توماس، المتخصص في التيارات الإسلامية المتطرفة في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية أن طريقة التحرك والتنظيم التي اتبعها محمد مراح تشير إلي إمكانات محدودة. علي صعيد آخر، شيعت جثامين ضحايا حادث تولوز اليهود في مقبرة هار همينحوت الكبري في القدس في حي جيفعات شاوول في حضور نحو ألفي شخص من بينهم وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه الذي طمأن إسرائيل بأنها تستطيع الاعتماد علي فرنسا لمحاربة معاداة السامية، وأضاف "نحن ملتزمون بالحماس نفسه في حربنا ضد الارهاب، هذه الآفة في أجزاء كثيرة من العالم ومن بينها للأسف الآن فرنسا". وكانت إسرائيل قد شنت هجوماً حاداً علي المفوضة السامية للشئون الخارجية لدي الاتحاد الأوروبي بسبب تصريحات الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي كاترين آشتون التي وصفت ضحايا حادث تولوز من الأطفال بأنهم مثل أطفال غزة. وانتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التصريحات قائلاً "ما أثار غضبي واستيائي، المقارنة بين مجزرة متعمدة استهدفت أطفالا، وبين أعمال دفاعية يقوم بها الجيش الإسرائيلي تستهدف إرهابيين يستخدمون الأطفال دروعا بشرية". وفي استدراك للموقف، أصدرت المفوضية بياناً قالت فيه إن كلام آشتون تم تشويهه بشكل كبير، وأنها تدين بشدة أعمال العنف ضد اليهود. مآزق الحكومة الفرنسية أعمال العنف التي شهدتها فرنسا مؤخراً تشير إلي عدة مآزق للحكومة الفرنسية. المأزق الأول هو الثغرات داخل جهاز الاستخبارات الذي أثبت عدم قدرته علي الكشف المبكر عن محاولات تنفيذ عمليات إرهابية. ومن شأن ذلك، أن يجر المجتمع الفرنسي إلي حرب شعواء ضد المنتمين للتيار السلفي بحيث تنشط موجة جديدة من الإسلاموفوبيا. المأزق الثاني هو تفاقم مشكلة اندماج الفرنسيين من أصول مسلمة في المجتمع الفرنسي الذي بات واضحاً أنها وصلت إلي الحد الذي أصبح يفجر ردود الأفعال العنيفة من الطرفين. وقد يترتب علي عمليات تولوز ومونتوبان تصعيد العداء للجالية الإسلامية في فرنسا، مما سيتسبب في انشقاقات خطيرة داخل المجتكع الفرنسي. وهذا هو المأزق الثالث. وحذر عميد جامع باريس دليل أبوبكر، أحد أكبر المراجع الإسلامية في فرنسا، من عواقب الخلط بين الإسلام وهجمات تولوز، ووجه رسالة إلي الفرنسيين قائلاًً "لا تخلطوا بين الإسلام كدين سلمي ودين مواطنة ومسؤولية وغير عنيف ومندمج تماما في بلادنا، وتلك الفئات الصغيرة جدا المصممة علي ارتكاب شر شنيع".