تخرجت في كلية الطب في أوائل الثمانينات، شابا طبيبا، أفعل ما أريد. عرفت السياسة أيام السادات، وانتميت إلي اليسار. كتبت الشعر، وغازلت الفتيات. أتحرك بسرعة، وأفرح بسرعة، وأغضب أيضا بسرعة. لم أعرف من العالم سوي أصدقائي وفتاتي "الذين هم في الأغلب يشبهونني". عائلتي تقليدية الأفكار والسلوك. كانت الحياة صاخبة بالسياسة والشعر والحب. فجأة، وجدت نفسي مجندًا في الجيش. نفر في سرية "3"، أحمل رقم "63"، في إحدي سرايا الخدمات الطبية بالجيش المصري. هناك ارتطمت روحي المنطلقة وسلوكي الحي بقوانين الانضباط العسكري التي في معظمها لا أفهمها ولا أشعر بمنطقيتها. سمعت أفكارًا وشعارات غريبة، مثل "الحسنة تخص والسيئة تعم". تعددت أساليب العقاب من تمارين رياضية شاقة وحتي تنظيف الحمامات وجمع القمامة. لم أفهم وقتها ماذا تفعل هذه النظم العجيبة في نفس الشباب، ليس فقط في جيشنا، بل في كل جيوش العالم. قالوا إنها تعني الانضباط، وقالوا إنها تعني كسر الإرادة، لتسهيل الانقياد، وطاعة الأوامر. قالوا كثيرا، ولكن بعد خروجي من الجيش، وتقدمي لدراسة الطب النفسي، عرفت أن المعني الإيجابي، كان "الثبات الانفعالي"، أما المعني السلبي، وأظن أن هذا هو مقصدهم، هو كسر النفس والرضا بالمقسوم، وتنفيذ الأمر بلا فهم ولا منطق. عرفت في دراستي للطب النفسي أن الثبات الانفعالي هو قدرة خارقة تتقمص الانسان وتجعله قادرًا علي الأمل، وقادرًا علي تحمل الاحباط، وقادرًا علي الحركة والصمود. لكن كيف للثوار أن يتمتعوا بهذه الآلية السحرية، القادرة علي إنجاح الثورة "ولو بعد حين"، وعلي فهم ثقافة القوي المضادة للثورة، وعلي التحليل ومواجهة المرض، مهما كان الألم. علي الثائر أن يصبح كالطبيب الماهر، الذي لا يفقد أعصابه، وهو يشخص المرض. فالثبات الانفعالي هو ما يجعل الطبيب يكتب تذكرة دوائية سليمة. أظن أن ما يحدث حاليا يشبه مريضا علي سرير المرض. يظهر أعراضا غريبة، تستعصي علي التشخيص والتفسير. العرض الأول.. كان التفاف الشعب المصري بمعظم قواه وأفراده حول الثوار في آخر أيام حكم المخلوع مشهدا تاريخيا جعل الثوار يعتقدون أن مصر كلها تفكر بطريقتهم، وتتصور ما يتصوروه. وبعد أشهر، ذهب أغلب المصريين ليصوتوا لقوي الإسلام السياسي. هكذا وبكل بساطة، وكأن الثورة خرجت من المساجد، وقادها شيوخ السلفيين، متأبطين أذرع قيادات الإخوان المسلمين علي كوبري قصر النيل وواجهوا خراطيم المياه والغاز والخرطوش وطلقات القناصة. كأن المشهد الذي رأيناه لجموع الشباب من مسلمين ومسيحيين ومدنيين علي الكوبري لم يحدث، وكأن ذاكرة أغلب المصريين قد قامت بعملية "مونتاج" لهذا المشهد، وجاءوا بمشاهد شيوخ السلفيين، في بلاتوهات القنوات الدينية، وهم يتكلمون عن يوم القيامة، وعن ضبط الوضوء، وطهارة الحائض، والأسباب الشرعية لتعدد الزيجات عند المسلم. كأن حديث السلفيين في منابر المساجد عن عدم جواز الخروج عن الحاكم، ورقائق معاملة الزوجة لزوجها هو المشهد البديل لمشهد الثوار علي كوبري قصر النيل، وفي ميدان التحرير. قد يسمي هذا العرض هلوسة بصرية وسمعية، ولنا في تاريخ المصريين أسوة من عجائب خضوعهم لكهنة آمون حتي خضوعهم لشيوخ السلفيين. العرض الثاني.. جيش منظم بآلياته وجنوده، يسمح للمواطنين أن يعتلوا دباباته فرحا وتهليلا. يسمح لهم أن يكتبوا علي جسد الدبابة "يسقط حسني مبارك". يقف أحد قاداته، ليرسل تحية الإجلال والتقدير لشهداء الثورة، ثم يفعل كل شيء لإجهاض الثورة. عرض عجيب لكننا إذا دققنا قليلا نجد أن الجيش كان أصلا لا يعنيه مما حدث سوي عدم اقتناعه بالوريث أو الخليفة جمال مبارك، أما دون ذلك فالأمر كله لا يعنيه، طالما يتمتع بجاهه وسلطانه وقوته. هو لا يريد جمال، أما مبارك فهو قائدهم الأعلي، وله كل التحية والتقدير. هكذا كانوا يعلموننا في الجيش. وهكذا فعل قائد الجيش المصري، حور محب، في زمن ثورة اخناتون علي كهنة آمون. عندما أجبر الطبيب سنوحي علي وضع السم للثائر اخناتون، فيموت، وينصبون فرعونهم الصغير "توت عنخ آمون"، ويستعيد كهنة آمون سلطانهم. لقد انحاز حور محب، قائد العسكر، للحكم البائد، وقاد انقلابا علي ثورة اخناتون، صاحبة الفكر الجديد والدين الجديد والزمن الجديد. عرض عجيب، يظهر شيئا مذهلا في عمق الشخصية المصرية، فهي شخصية تحب الجيش أكثر مما تحب العدل والتقدم. العرض الثالث.. اندهش الثوار من حب المصريين الجارف لرئيس وزراء موقعة الجمل، أحمد شفيق، ومن حبهم أيضا للدكتور عصام شرف، بعدما فشل في أن يكون معبرا عن الثورة. أحبوا كذلك الدكتور كمال الجنزوري، الذي أتي علي دماء شبابنا الذين استشهدوا في شارع محمد محمود، وفي مجلس الوزراء. يحبون برلمان الإخوان، والنائب الذي رفع الأذان تحت قبته. يحبون الكتاتني ونائبيه السلفي والوفدي. فالمصريون يحبون البذات الأنيقة. يحبون مدراءهم، وفراشيهم، وعمدة قريتهم. يحبون كل من في يديه المصلحة. يحبون النفاق والتقرب من الحاكم "أي حاكم". يرفضون العصيان المدني والاحتجاج السلمي، والمسيرات. عاشقون لعجلة الانتاج، وعجلة النظام، وأي عجلة مرسومة علي جدران معابد أجدادهم. ينتظرون ما لا يأتي في مواسم الحصاد، بصرف النظر عن ظلم المحتسب أو الوالي أو الخليفة أو الرئيس، أو الخفير أبو شوارب "مبرومة". المهم عندهم، قليل من الملح والخبز. الفلاح الفصيح في رسائله لشيخ البلد، ورغم تقدير التاريخ لعمله الأدبي والفني، كان منافقا حتي النخاع. هكذا نقش الزمن علي الحمض النووي للجنس المصري مثلثا مقدسا رهيبا ومخيفا. الضلع الأول منه هو تقديس الدين، "أي دين". والضلع الثاني هو تقديس الجيش، "أي جيش". والضلع الثالث هو تقديس الرئيس، "أي رئيس". هذا هو مرض المصريين الحقيقي، وهو متلازمة عجيبة تضاف إلي بناة الأهرام، واكتشاف الزراعة واكتشاف الضمير. متلازمة هي مزيج من اللذة والألم، ومن القهر والعزة والعقم والخصوبة. أقول للناجين من متلازمة المصريين، الثوار العظماء، افحصوا مريضكم بعمق وجدية.. اكتشفوا شعبكم ولا تفزعوا ممن سترونه من أهوال.. شعبكم قديم وعظيم ويستحق منكم الكثير.. إنهم آباؤكم وأجدادكم ونطفتكم الأولي. كونوا كالطبيب الحاذق، الذي يتمتع بالثبات الانفعالي لا ترتعش يداه، ولا يفقد أعصابه وهو يتعامل مع الجسد النائم السعيد والمتألم الذي يرفض الدواء، ويتلذذ بأوجاعه، ويفرح بالزائرين الذين يحملون له أكياس البرتقال وصحون الحساء التي قد يكون بها قطعة من اللحم. هذا الجسد النائم السعيد والمتألم، يجب أن تعرفوا أنه رغم مرضه، لم ولن يموت.