تتابع دار الأوبرا المصرية عروض الأوبرا «الهوائية» والمنقولة بشكل مباشر من دار الأوبرا الأمريكية «المتروبوليتان» التي أتاحت لنا هذا العام رؤية عدد من الأوبرات الشهيرة التي لم نكن نحلم يوما بأن نراها مجسدة أمامنا بمثل هذه القوة في الإخراج.. والسمو في الأداء الغنائي والروعة في الديكورات والأزياء، وهكذا مثلا رأينا دون جوان لموزارت في تفسير غنائي شديد الابتكار ورأينا فاوست جونو فابهرنا الأداء والروح الأوبرالية العالية ثم رأينا لأول مرة في مصر روزاليندا.. الأوبرا الباروكية التي ألفها هاندل ورأينا مسحورين وكأننا نعيش حلما لا ينتهي الإعداد الأوبرالي لعاصفة شكسبير من خلال موسيقي نيفالدي وهاندل ورامو .. وهانحن اليوم نري لأول مرة في مصر أوبرا فردي الشهيرة «ارناني» المأخوذة عن مسرحية فكتور هوجو الشهيرة «هرناني» التي سببت عند عرضها المسرحي لأول مرة عاصفة من الاحتجاجات وصلت إلي حدود المعركة، ما اطلقوا عليها فيما بعد معركة هرناني لأن المؤلف الشهير تعرض في أحداث المسرحية للذات الملكية آنذاك وأسقط من خلالها الكثير من الاعتراضات والهجوم علي نظام الحكم. وليست هذه هي المرة الأولي التي يلجأ فيها جيوسي فردي إلي أدب فكتور هوجو بل إلي الأدب بصورة عامة، ليستقي منه مادة لموسيقاه الدرامية المعبرة فقد سبق له أن قدم أوبرا أخري لهوجو باسم «ريجولتو» مأخوذة عن قصة له باسم «الملك يلهو». كما عاد إلي أدب الكسندر دوماس ليقدم من خلال رواية «غادة الكاميليا» واحدة من أشهر أوبراته وأكثرها شعبية ولجأ إلي مسرحيات شكسبير ينتقي منها أكثرها دموية وشهرة ك«عطيل وماكبث» لأنه شعر ان موسيقاه الدرامية تتلاءم كل الملاءمة مع الروح الأدبية والتراجيدية التي تملأ صفحات بعض الكتب الشهيرة والمسرحيات. لذلك لم يكن غريبا أن يقع اختياره علي هذه المسرحية التي اثارت الكثير من الجدل والنقاش ليحولها إلي أوبرا مليئة بالأغاني الشجية والأدوار الدرامية المعقدة التي تتطلب مجهودا خرافيا سواء في الصوت أو في طريقة الأداء. حرب أهلية أحداث «ارناني» تدور في إسبانيا من خلال ثائر نبيل هو دون جوان حاكم الأراجون الذي خاض حربا أهلية ضد الملك خسر فيها كل ثروته ومناصبه مما دفعه إلي التنكر باسم «هرناني» وقيادة مجموعة من الثوار قرروا الوقوف بوجه الملك الغاشم دون كارلو. هرناني .. هذا يحب نبيلة شابة تدعي «الفيرا» تعيش مع ولي أمرها العجوز الكونت دي سيلفا الذي قرر الزواج بها وهي في الوقت نفسه موضع اعجاب الملك الذي يأتيها إلي جناحها في القصر ليلا.. متنكرا محاولا استمالتها ولكنها ترفض عرضه بإباء وشمم لأنها أخلصت لهرناني الذي يتسلل هو أيضا إلي مخدعها ليحثها علي الهرب معه كما لا تضطر إلي الزواج بالكونت العجوز.. وهناك يتقابل مع الملك المتنكر ويتصارعان بالسيوف في مخدع الجميلة ويصل دي سيلفا ليري رجلين في مخدع الفتاة التي قرر الزواج بها ولكن غضبه يزول عندما يكتشف أن أحد هذين الرجلين هو ملك إسبانيا الذي يعده تعويضا له عن هذه الإهانة بمنصب كبير في الدولة.. بينما ينجح هرناني في الهرب. قسم فردي الأوبرا إلي أربعة فصول أطلق علي كل فصل منها اسم مستقل. فالفصل الأول الذي لخصنا أحداثه يسمي ب«العصابة» بينما الفصل الثاني يحمل اسم «الضيف» وهو يروي الاستعدادات لحفل الزواج المرتقب بين سلفا العجوز والفيرا الشابة .. حيث يصل هرناني متنكرا ليفاجئ الفيرا ويعاتبها في حوار غنائي موسيقي من أجل ما أبدع فردي وتؤكد الفيرا لهرناني حبها واخلاصها وأنها تفضل الموت علي الزواج بغيره. ويفاجئ سيلفا العاشقين ولكنه يعجز عن قتل هرناني لأن هرناني «ضيفه» بل إنه يذهب إلي درجة اخفائه عندما يصل الملك وجنوده لإلقاء القبض عليه .. ويظل مصرا علي حمايته مطبقا مبادئ الشرف التقليدية التي يحافظ عليها مقررا أن ينتقم لنفسه عندما يحين الحين وهكذا ينجو هرناني بعد أن وعد سيلفا بأنه سيضع حدا لحياته إذا ما نفخ سلفا بالبوق. ويأتي الفصل الثالث الذي اطلق عليه فردي اسم «الرحمة» والذي يأخذ طابعا سياسيا محضا تلعب فيه الموسيقي دورا رئيسيا من خلال الكورس والأغاني الحماسية ورغبة الملك في تنصيب نفسه امبراطورا بينما تزداد قوة ارناني والثوار الذين يقررون مهاجمة القصر واغتيال الملك. ولكن مؤامرتهم تفشل للمرة الثانية .. وينجح الملك في القبض عليهم ويقرر إعدامهم .. عند ذلك يعلن «هرناني» هويته الحقيقية .. وتتدخل الفيرا طالبة الرحمة من الملك لحبيبها الذي قررت الزواج به. لكن ليس كل ما يحلم به العاشقان يتحقق إذ إننا في الفصل الرابع المسمي «القناع» والذي نسمع فيه أجمل أغاني الحب والسعادة بين العاشقين يصل دي سيلفا العجوز ليذكر هرناني بوعده القديم.. وينفخ بالبوق فلا يتمكن هرناني من رفض نداء الواجب والشرف ويطعن نفسه طعنة الموت .. بينما تلحق به الفيرا بجرعة السم غير قادرة علي الحياة من غيره. مواجهة عاطفية في هذه النهاية الميلودرامية المثيرة والتي تضعنا أمام مواجهة العاطفة بالشرف والواجب بالحب تبدع موسيقي فردي في خلق الأجواء ورسم الشخصيات وإعطاء البعد الميلودرامي الذي كتبه هوجو بعدا تراجيديا موسيقيا خلابا يذكرنا بقوة موسيقي فردي وسيطرتها وإمكانياتها اللامتناهية سواء في الغناء الفردي أو غناء الكورس أو غناء الأصوات الثلاثة معا الذي تميز به فردي ووصل به إلي أعلي درجات إبداعه. العرض الأوبرالي الذي تقدمه المتروبوليتان مبهر إلي أقصي الحدود.. ديكور ثقيل مذهل مكون من أدراج عالية وأبراج شاهقة وبذخ لا مثيل له.. في تصوير المخادع والحدائق. وتزداد متعة العرض عندما تدخل بنا الكاميرا إلي كواليس المسرح .. لنري كيف يتم تغيير الديكورات العملاقة بدقة متناهية ومن خلال تنظيم إبداعي تجدر دراسته وتطبيقه عشرات بل مئات العمال يعملون بصمت وبدقة متناهية دون ضجة ودون تململ لتغيير ديكورات شاهقة تبدو لنا كالبنيان المرصوص. درس حقيقي في إدارة المسرح يجدر بكثير من المسارح التعلم منه. هذا إذا تركنا جانبا كل ذلك. روعة الديكور والإضاءة دقة الإخراج وتحريك جموع الكومبارس الكثيرة وبذخ الأزياء المذهل ودقتها التاريخية كل ذلك يمكن أن يوضع في كفة ميزان واحد وأن نقف أمام الأداء الغنائي الخارق للعادة والذي تمكنت إدارة أوبرا المتروبوليتان من جمعه في عرض واحد. هناك أولا هذه المغنية الشابة المعجزة انجيلا هيدي التي تؤدي دور الفيرا والتي تسجل هذه الأوبرا أول ظهور عالمي لها علي خشبة المتروبوليتان. صوت نادر له رنين كرنين أجراس الجنة وحضور درامي طاغ وإخلاص في الأداء والتعبير يستوقف النظر. كذلك الأمر مع الإيطالي مارشيلو جورداني في دور «هرناني» وخصوصا الروسي المعجزة ديمتري هفورو ستوفسكي في دور الملك والمغني الإسباني فورلانتنبو في دور العجوز سيلفا مجموعة من الأصوات العالمية الكبيرة تتجمع في عمل واحد يؤكد أن الفن لم يعد يعترف بأية حدود وأن جناحيه الواسعتين امتدتا لتشملا العالم كله وليس بلدا واحدا أو جنسية واحدة. عرض عالمي «هرناني» عرض يجمع بين الفكر الفرنسي والموسيقي الإيطالية والإخراج الأمريكي والأداء الغنائي المتنوع الجنسيات يجتمع كل هذا في عمل واحد مبهر تبثه الأقمار الصناعية علي أركان الأرض الأربعة وتحظي مصر بنصيبها منه. نصيب من المتعة والإمتاع ونصيب كبير من الدرس والإفادة.. وإحساس بأن الفن حقا قد أصبح طائرا كبيرا.. السماء كلها وطنه.. والأرض علي اتساعها هي هدفه. للمرة الألف شكرا لدار الأوبرا المصرية وهؤلاء المتبرعين الذين أتاحت لنا اموالهم وتبرعاتهم الخيرية أن نري هذه الأعمال الفنية الكبري وأن نتمتع بها ونتعلم منها وأن نشعر في نهاية الأمر أننا جزء لا يتجزأ من هذا العالم المدهش الكبير الذي يحيط بنا والذي يصنعنا ونصنعه.